جولة مع الذاكرة الشعبية للدكتور عبدالرحمن الشقير
عبدالله الرستم
تعود معرفتي بمؤلفات الدكتور الشقير عن طريق الصديق الأستاذ/ عقيل البوصالح، حيث عادة ما نتساءل عن آخر قراءاتنا ليجيبني باسم الدكتور الشقير، ولثقتي الكبيرة بانتقاءات أ. عقيل، اقتنيتُ جُل كتبه وأولها (الذاكرة الشعبية) الصادر عام 2020م عن دارَي ابن النديم وروافد، والذي حرصتُ على قراءته كاملاً لما فيه من معلومات ثريّة، حول جهدٍ كبير بذله الدكتور الشقير بقراءته الاجتماعية لمصادر الوعي التاريخي المحلّي والمنتج الثقافي في الحياة اليومية للمجتمع السعودي، وتكمن أهمية الكتاب أن القراءة جاءت من شخصٍ يعيش هذه اليوميات بشكل دقيق وواضح كما في حسابه على (التويتر) بالإضافة إلى كتابه هذا وغيرها.
قد تكون المعلومات التي يذكرها المؤلف شائعة، ومتاحة للجميع، إلا أن هذا الاستقراء والتحليل هو ما نحن بحاجةٍ له، وذلك برجوعه إلى ما سطّره علماء الاجتماع في العالم العربي والغربي، وهذه القراءة للتحولات التي نعيشها بجميع محطّاتها جاءت من الداخل، أي: من شخصٍ لا يريد إلا الخير لهذا المجتمع، واقتحام بعض سياجاته التي بحاجة إلى تفكيك وتحليل، خصوصاً وأن عاداتنا وتقاليدنا بحاجة إلى مثل هذه الأطروحات، وإلا جاء من هو خارج الدائرة وتحدّث عن مجتمعاتنا دون وعي، وربما دون موضوعية. فقد كانت أدوات الشقير في كتابه محل الحديث في غاية الأدب والرقيّ، فهو – كما أرى – راصدٌ علمي لهذه التحولات، ولا يسيء لعادة ما أو تقاليد أو غير ذلك، وهذا الرصد الراقي حريٌ به أن يُمنح وسام الاحترام والتقدير، ناهيك عن بعض الدراسات التي ربما تسيء لعادات الشعوب وتقاليدها بحجّة أنها لا تتماشى مع مزاج الباحث أو الراصد.
كانت نواة البدء عند الشقير عبارة عن تعريف الثقافة الشعبية والهوية والمجتمع، مروراً بسؤال الهوية الاجتماعية، وتحولات منظومة القيم عند الفلاح، وتسليط الضوء على الحيّز الاجتماعي وقياس التحولات القيمية، والمبادرات الجماعية لصحة المجتمع وجودة الحياة، ولم يترك الشقير بعض طقوس العبور للمولود، ومفهوم الغزل والإغواء في القرية التقليدية، والمعتقدات الشعبية في الحياة اليومية. والجدير بالذكر هو أن الشقير لم يغفل تحولات مفاهيم الترفيه والسياحة في الثقافة المحلية، وعن رمزيّتها ومكانتها، كالمقياظ والمكشات والمقناص، والذي – المقناص – صار له أثرٌ بيئي سلبي إثر الصيد الجائر وهجرة بعض الحيوانات التي كانت إلى وقتٍ قريبٍ لها وجود كبير في بلادنا، مروراً بالمقاهي والتحولات التي حدثت لها عبر مراحل تاريخية والتي تكشف عن دورها الاجتماعي ومفاهيمها التي يحملها روّاد المقاهي.
وقد كان للشيلات نصيبٌ جيد من أضواء الشقير التي سلطها على هذا الفن الذي قد يكون طارئاً محدداً تاريخها وأنواعها ولغتها وبعض التفاصيل التي لها علاقة من قريب أو بعيد، أما القهوة ورمزيّتها وهل أنها ذكورية أم نسائية حظيت بالاهتمام من الباحث، مستفيداً بذلك ببعض النصوص الأدبية الشعبية، ليكون مسك الختام حول الخبز والمخبوزات وأنواعها، ودور النخلة في حياتنا اليومية سواءً بوصفها شيئاً مادياً أو حدثاً اجتماعياً أو منتجاً اقتصادياً.
وقفة حول (أوهام تاريخية حول القهوة):
يرى الدكتور الشقير أن ما أثير في بعض الدراسات أن القهوة تعرّضت إلى رفضٍ اجتماعي، وسجالات فقهية لتحريمها، ماهو إلا (فتوى شاذة ضخّمت وأعطيت هالة أكبر من حجمها، وإما أنها حُرمت لما أفضت إليه من تجمع الرجال والنساء في أماكن عامة لشربها …)، وفي حقيقة الحال أن القهوة تعرّضت للتحريم من بعض الفقهاء منذ ظهورها باعتبارها منبّهاً، أو لشيء آخر، وللتأكد من جليّة الحال فإن هناك أكثر من 50 رسالة أو كتاب/كتيّب في هذا الأمر منذ القرن العاشر الهجري تقريباً وهو التاريخ المتوقّع فيه ظهور القهوة كمنتج جديد على الساحة الإسلامية، وهذا السجال التحريمي ليس تضخيماً وليس فتوىً شاذّة!!، نعم .. هناك من يرى أنه لا بأس بها، وهناك من يرى تحريمها وهو ما ولّد شيئاً من السجالات الفقهية – وهو أمر طبيعي إزاء أي منتج جديد – ولستُ هنا في معرض الإطالة، ولكني بمعرض طرح وجهة نظر ومعلومة، وأن تحقق هذا الأمر – فتوى التحريم – بحاجة إلى رصدٍ آخر وقراءة أوسع في تراثنا المطبوع والمخطوط، وأرى أن الدكتور جديرٌ بتناول هذا الموضوع لامتلاكه أدوات القراءة الحيادية والشجاعة.
خاتمة:
ليس هناك شيء أعظم من الشكر والتقدير لهذه الطاقات التي تحتضنها بلادنا، وكانت رحلتي مع الكتاب بلا شك شيّقة جداً، ورغم هذا العرض الموجز والذي يستحق الوقوف عند أكثر فصوله والتي تُعد من الأهمية بمكان لملامستها حياتنا الاجتماعية والاقتصادية.