مذكرات محصن متعافي (الجزء الأخير)
رباب حسين النمر
برزخ فاصل بين الشك واليقين هي تلك الساعات التي تمتد من اثنتي عشرة ساعة حتى ست عشرة، والروح تموج بين الآلام وانتظار النتيجة.
غفوات متقطعة بانتظار الفجر الذي أتى ولم يحمل معه النتيجة بعد.
أعود لتصفح الرسائل علّ وزارة الصحة تركت نتيجة!
وفي غمرة الآلام واشتداد الوجع وثمة شعور بالتسمم الطاغي رنّت نغمة الإشعارات منبعثة من المحمول!
عيناي تلتهمان النص:
عزيزي/عزيزتي……
صاحب الهوية المنتهية بـ ……
وزارة الصحة تبلغك بأن نتيجة فحص كورونا كوفيد التي أجريت لك بتاريخ ………. إيجابية (مصاب) وسيقوم الفريق الطبي بالتواصل معك.
يجب عليك اتباع التالي: البس الكمام، اعزل نفسك عن أفراد أسرتك ولمتابعتك الصحية حمّل تطبيق “تطمّن” .
ولمزيد من المعلومات اتصل على ٩٣٧. لتحميل تطبيق “تطمّن” اتبع هذا الرابط.
أغمضت عينيّ وتنفست بعمق، فالحمد لله على ما قدّر!
ليس أمامي الآن سوى العزل والسعي للحصول على العلاج اللازم! واستعجال المخالطين لسرعة إجراء المسحة الطبية.
أغلقت باب غرفتي، وامتنعت عن فتح الباب لأي كان خوفاً على أبنائي. كان أولادي يطرقون الباب فلا أستجيب إلا بحوار وراء الباب!
فقط في الغرفة أنا وأوجاعي وحفنة تمر وجزر!
يغلبني الدوار والنعاس، فأغوص في الفراش وأستسلم للوجع.
وإن اعترتني رجفة بادرت لجزرة أو قبضة تمر تبعد عن جسدي المتعب شبح الارتجاف!
عدت للمركز لتلقي العلاج اللازم وإجراء المسحة لأبنائي المخالطين!
كنت في حالة من الخوف على كل من حولي: أبنائي والطاقم الطبي. أشعر وكأنني محاطة بشرنقة من الكائنات التاجية الخضراء التي تنتشر مني لتنال الآخرين بالأذى!
أسير وكأن خلفي مذنّب من الجراثيم أو سرب من الفايروسات!
خائفة مني عليهم!
اتجهت للصيدلية وتأملت الدواء: عشر حبات زينك، وبضع حبات بانادوتكس! ودواء مضاد للكحة! ليس من بينها فيتامين سي.
وثمة تطمين باستقرار الحالة، وتوصيات بالمراجعة مع حصول انتكاسات أو ارتفاع درجة الحرارة أو شعور بضيق التنفس.
عدت لغرفة العزل، عدت للسرير، لافتراس الوجع الذي ينشب في عظامي والطعم الذي لا يغادر فمي!
في هذه الغرفة كان الدواء وجباتي الغذائية التي لا أستطيع تأخير مواعيدها وإلا افترس الوجع عظامي حد البكاء!
أراقب (توكلنا) الذي تحول من اللون الأخضر إلى اللون البني، وحمل كلمة (مصاب) بدلاً عن (لم تثبت إصابته) الخضراء الناصعة، ثم أنتقل لـ( تطمن) وأراقب دائرة الأيام التي تنقص كل يوم حتى تتلاشى!
لم أكن أفكر بالخروج أو وجع العزل، فقد كانت الآلام أكبر، والقلق حول أولادي الذين عادوا وطلبوا مني أن أفتح الباب فقد كان الجميع مصاباً.
كورونا شوهت الشم وعبثت بالتذوق، وتركت في الحلق طعم (كورونا) الذي لا يشبهه طعم ولا شعور إطلاقاً.
ومن حسن الحظ أنها تركتني أحيا بحواس ثلاث لم تمسسها بسوء!
فلي أذنان تسمعان، وعينان تبصران، ويدان تتحسسان الأشياء، وعقل يعي!
جثمت كورونا على حقيقة وجودي! بعد أن كانت مجرد أرقام تلاحقنا بالخيبات والخوف، ومجرد أخبار مخيفة تحاصر قلوبنا بحزن الفقد، ومجرد عزل وحجر عن فعاليات الحياة وعن الحرية.
ولله الحمد على جمل قضائه.