تطور اللغة لدى الطفل (من المولديا إلى اللغة)
مقدمة محمد خضر الشاخوري
يولد الأطفال الرُضع باكين, إلا أن صيحات البكاء هذه تمثل اللبنة الأولى لتكوِّن لغتهم, فنغمة (مولوديا) بكائهم تعكس لغة والديهم. ولذا يمكن تمييز اللغة الأم لطفل رضيع من نغمة بكائه الصادرة منه. على سبيل المثال, الطفل الفرنسي يبكي بنغمة متصاعدة مقارنة بالنغمة المتدنية للطفل الألماني .
المراد, أن الطفل يكتسب اللغة بأدق تفاصيلها الصوتية مذ نعومة أظفاره.
في هذا المقال المترجم أدناه – على صعوبة ترجمة مصطلحاته العلمية – وسع الباحثون الفكرة السابقة وطبقوها على ٦٧ ألف صوت لأطفال رضع من ألمانيا. وبهذا أكد الباحثون ما توصلت له الدراسات السابقة, بفارق في عدد عينات الأصوات و الأطفال الذين أجريت عليهم الدراسة. ليصلوا إلى نفس النتيجة، والتي مفادها أن الطفل يبدأ باكتساب النغمات الصوتية الصادرة من الكلام الموجه إليه من أبويه.
البحث المترجم
في الأشهر القليلة الأولى من عمرهم، يبكي الأطفال ويبربرون babble ويناغون gurgle ويصدرون أصواتًا غريبة أخرى. قد يكون من الصعوبة بمكان أن نتخيل أنهم في الواقع يضعون أسس كلامهم اللاحق بهذه الألفاظ. ومع ذلك، هناك عنصر حاسم يثبت أنه حتى بكاؤهم يمكن عزوه للغة معينة: التنغيم في الكلام / اتساق الأصوات speech melody – أو بشكل أكثر دقة: النبر prosody (الخصائص المميزة للنبر الموسيقي، كطول حروف العلة والتوقف عن الكلام المؤقت وارتفاع الصوت تعطي أنماطًا إيقاعية مختلفة في لغات مختلفة، حيث الرضع عادةً ما يكونون حساسين لهذه الخصائص للسان امهاتهم).
تقول كاثلين ويرمكي: “تتميز كل لغة بعناصر موسيقية محددة، والتي نطلق عليها اسم اللحن / النبر prosody”. النبر، بعبارات بسيطة، موسيقى الكلام التي من خلالها يتغير معنى اللفظ intonation (النمط اللفظي الذي يغير المقصود من الكلام بتغير طريقة لفظ الكلمة، كأن يغيرها من خبرية الى اسفتهامية او استنكارية) والايقاع / الريتم rythem (اتساق الأصوات ومنها طول المقطع الصوتي والنبر المتسق مع باقي المقاطع). دراسات سابقة أثبتت أنه حتى الأطفال حديثي الولادة قادرون على التمييز بين اللغات المختلفة ، كالألمانية أو الفرنسية، باستخدام قرائن النبر، وخاصة المولديا melody ، بمساعدة هذه العناصر الموسيقية، يتعرف الأطفال على اللغة المعنية قبل وقت طويل من تمكنهم من إدراك خصائصها الخاصة كالصوامت أو أحرف اللين (الصائتة) أو المقاطع اللفظية.
دراسة شملت أكثر من 67 ألف صوت طفل
كاثلين ويرمكي Kathleen Wermke البرفسورة في مستشفى جامعة فورتسبورغ في قسم تقويم الأسنان ورئيسة مركز تطوير ما قبل النطق والاضطرابات النمائية. بالتعاون مع باحثين من الولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا، قامت البرفسورة كاثلين بفحص أصوات ما مجموعه 277 رضيعًا خلال الأشهر الستة الأولى من أعمارهم بمزيد من التفصيل. في المجموع ، قام الفريق بتحليل أكثر من 67500 من ألفاظ منطوقات بكائية cry vocalisations – ما يسمى بأصوات البكاء من الجوع hungry-crying، و أصوات البربرة والقرقرة .
“لقد وجدنا نمطًا متطورًا واضحًا متجهًا نحو مزيد من التعقيد ،” كما تلخص ويرمكي نتيجة الدراسة ، التي نُشرت في مجلة التقارير العلمية Scientific Reports
يزداد التعقيد على مدار الأشهر الستة الأولى من العمر
في دراسته، ميز الفريق بين نوعين من المنطوقات / التلفظات vocalisations عند الأطفال: أصوات البكاء وغير البكاء في اللغة الفنية technical language. أو بعبارة أخرى ، يُطلق عليه البكاء التواصلي “communicative crying ” في حضور الأم ، والناتج عن عدم الراحة كالجوع وعندما تكون هناك رغبة في التواصل. ومن ناحية أخرى، الأصوات التي يصدرها الطفل عندما يشعر بالراحة ويتفاعل صوتيًا.
“كان الهدف من الدراسة هو إجراء تحليل تطوري موضوعي للنبر القبلي prosodic antecedents في شكل اتساق مولديا melodies عند الرضع الأصحاء من حين ولادتهم وحتى عمر 6 أشهر في جميع أصواتهم / تلفظاتهم / منطوقاتهم vocalisations”، كما تقول ويرمكي. كانت فرضيتها: كلا النوعين من الأصوات [أصوات البكاء وأصوات الراحة] يظهران زيادة تطورية مميزة في المولديا المعقدة.
في الواقع ، يُظهر التقييم أن مولديا أصوات البكاء العفوي تزداد تعقيدًا خلال فترة ال 180 يومًا الأولى من العمر؛ التعقيد يعني أن المولديا البسيطة (على شكل قوس فردي – وهو ما يتمثل في ارتفاع الصوت ثم انخفاضه) تستبدل بشكل متزايد بملوديات melodies متعددة الأقواس [متكونة من ارتفاع متبوع بانخفاض في الصوت بشكل متعدد] ، أي أن الأساس لثراء متغيرات أنماط التنغيم intonation اللاحقة في الكلام قد تم تأسيسها بالفعل أثناء البكاء. كان هذا التطور مشابهًا للألفاظ الصوتية phonetic utterances التي تندرج تحت فئة “تلفظات الراحة”comfort vocalisations. درجة التعقيد زادت أيضًا في هؤلاء، ولكن مع انخفاض مؤقت عندما يصل عمر الطفل الى حوالي 140 يومًا.
النمو السريع للدماغ هو الأساس
“في نهاية الشهر الأول من العمر، تُظهر حصيلة بكاء الأطفال التي خضعت للدراسة مولديًا melody معقدًا في أكثر من نصف الحالات ” كما تقول ويرمكي. من مولديا أحادية القوس إلى مولديا متعددة الأقواس في 30 يومًا: هذا البرنامج التطوري مستند على النضج المبكر للآليات الفيزيولوجية العصبية الكامنة وراء إنتاج المولديا. في الواقع، تنمو أدمغة الأطفال حديثي الولادة أيضًا بسرعة هائلة خلال هذه الفترة الزمنية، ويظهر المواليد الجدد تناسقًا مذهلاً بين التنفس والصوت.
علاوة على ذلك، يعتقد الباحثون أن الظهور المبكر لمولديا البكاء المعقدة يشير إلى أن الرضع قد خضعوا بالفعل لنوع من التدريب، وهو تطور “تحضيري / استعدادي” داخل الرحم قبل الولادة، من أجل البدء في تطوير المولديا فورًا أو عند إشارة بداية البداية ” الولادة”.
لدى ويرمكي وزملائها تفسير لهذا الانخفاض الطفيف في التعقيد بين عمر أربعة وخمسة أشهر: “خلال هذه الفترة الزمنية، يوسع الأطفال من حصيلتهم من الألفاظ الصوتية vocalic utterances لتشمل عناصر جديدة تتفاعل مع منحنى / كونتور contour المولديا العام [من المراجع الشاخوري: كونتور هو طريقة الموسيقى الواردة في اللفظ، مثلاً، المنحى العالي لكلمة كيف تغير معناها من خبرية الى استفهامية]، أي المكونات الشبيه بالصوائت vowels – والمكونات الشبيه بالصوامت “، كما تقول كاثلين ويرمكي. في الوقت نفسه، تتغير الحنجرة والقناة الصوتية ، مما يستلزم سلسلة من عمليات التكيف في إنتاج الصوت. بالإضافة إلى ذلك، يبدأ الأطفال أيضًا في إنتاج مجموعات المقاطع اللفظية الأولى بشكل بربرة babbling خلال هذه المرحلة. “من الواضح أن هذه الفترة التطورية الجديدة تسبب” تراجعًا “مؤقتًا في تطور المولديا لإنشاء تطور صوتي / لفظي vocal على مستوى هرمي أعلى. بعد ذلك ، يبدأ الرضيع عن قصد بتقليد التنغيم ل لغة (ل لغات) المحيط في متواليات من مقاطع صوامت – صوائت بشكل بربرة babbling.
متطلب أساسي للعلاجات المبتكرة
التنغيم هو التتابع المطرد لدرجات صوتية متخالفة – أي أنه التغيرات التي تحدث في درجة نغمة الصوت في الكلام أو الحديث المتواصل، يحدث هذا الاختلاف في النغمة بسبب تذبذب الأوتار الصوتية، وفقًا للمعنين بهذه الدراسة، يمكن للنموذج التطوري المعروض الآن أن يساهم في فهم أفضل لماذا يكتسب الأطفال الرضع مهارة معقدة كاللغة بهذه السرعة وبلا مجهود على ما يبدو. إن ما يبدو أنه بحث أساسي جاف في مجال اكتساب اللغة المنطوقة له صلة عملية للغاية. “معرفة هذه العملية التطورية ستمكننا من تحديد علامات الاحتمال الرصينة سريريًا للتعرض لاضطرابات تطور اللغة” كما تقول ويرمكي. وتقول إن هذا هو الإقتضاء الأساسي لتطوير علاجات جديدة ومبتكرة للأطفال الصغار المعرضين لاحتمال الإصابة باضطرابات اللغة.