حكايات من عبق والدي ..حسين النمر(ج٢)
رباب حسين النمر
حول الميلاد والطفولة والدراسة هناك من الذكريات التي تفتح نوافذ الحنين وشهية الكلام على مصراعيها، سألت والدي عن ميلاده وتاريخ طفولته وتعليمه، فأجابني:
ولدت في المبرز بالأحساء ببيت الجد المحمد الحسين عام ١٣٦٩هـ.
ولما بلغت من العمر شهرين توفي جدي محمد الحسين.كنت أنا الولد البكر لوالديّ ألف رحمة ونور على روحيهما،
فقضيت فترة الطفولة بالأحساء بين أمي وأبي وجدتي وأعمامي في البيت الذي وصفته.
أول مدرسة سجلت فيها حين بلغت الخامسة من عمري هي مدرسة الجلعة التي لا يوجد بها مقاعد ولا طاولات، حيث يجلس التلاميذ الصغار على (المداد).
وبقينا في مدرسة الجلعة ستة أشهر، وكانت هذه المدرسة مجاورة لسوق الجلعة للتمور، ومنه اكتسبت هذا الاسم.
ثم انتقلت إلى المدرسة الثالثة بالمبرز حيث تم نقل كافة تلاميذ مدرسة الجلعة، قسم منهم إلى مدرسة المبرز الأولى وتقع شرقي الشعبة، وطريقها من دروازة مستورة. والقسم الآخر إلى المدرسة الثالثة بالمبرز بالقرب من عين مرجان. وقد بنت شركة أرامكو هذه المدرسة فكانت بمستوى عالٍ من الترتيب والجودة، وهي مزودة بالمقاعد والطاولات والإنارة.
في هذه المدرسة تلقيت العلوم الأولى مع مجموعة من الأصدقاء، منهم من يماثلني سناً من أبناء العمومة والمعارف وأهل الحي والجيرة.
كان أهلنا قبل أن يشتغلوا بالصياغة (التي مارسوها بالدمام) يعملون في الخياطة بالأحساء، وكان الوالد والأعمام يفتحون مجلسهم ويستقبلون المخايطة الذين يأتون صباحاً، ويعملون حتى الظهر، ثم يعودون إلى منازلهم للراحة، ثم يعودون عصراً ويمكثون حتى الغروب، حيث يقومون بأعمال خياطة البشوت ويتسامرون أثناء العمل ويتجاذبون أطراف الحديث، وكان فريج الشعبة يعج بمجالس المخايطة، مثل مجالس مخايطة عايش النمر ومجلس محمد الأحمد، ومجلس يوسف المحمد علي (القهيوة) لأن الخياطة كانت صناعة منتشرة في الأحساء، ومن الأعمال التي كان يمارسها الأحسائيون مهنة الفلاحة، والصياغة، والنجارة، والحدادة.وعلى أساس المهنة كان يتم تصنيف الأحياء السكنية، مثل حي النجاجير الذين يصنعون الأبواب والمناز وكراسي المصاخن والقُواري(جمع قاري) التي هي بمثابة أداة نقل، وحي الحداديد وهم الذين يصنعون من الحديد السكاكين والمحاش والصخاخين والمسامير والجدوم، وحي الحياك الذين ينسجون البشوت والعباءات مثل عائلة البوخضر.
من مشاهد الطفولة التي مرت بي بالمبرز اشتهار الجد محمد الحسين رحمه الله بـ(البمبوة) وهي عبارة عن عمود خشبي طويل جداً كأعمدة الكهرباء والإنارة بالشوارع، وكانوا يصلون قطعتين أو أكثر من الخشب ليصل ارتفاعها من. ستة أمتار إلى حوالي عشرين متراً.
كان جدي ينصب البمبوة في منتصف شهر شعبان بعد المولد من أجل استخدامها في شهر رمضان المبارك بمساعدة بعض الفلاحين والأقارب فيثبتونها ويصلونها بحبال تصل إلى البيوت المجاورة حتى تثبت ولا تقلبها التيارات الهوائية والرياح، وكان يثبت في أعلاها سراج، وتثبت البمبوة من أسفلها بقطعة حديد بسماكة ١سم وربع، وكان جدي رحمه الله يضرب هذه القطعة بالمطرقة وقت الإفطار فيسمع الناس صوتها ويدركون أن وقت الإفطار قد حان.
لم يكن الناس في ذلك الحين يملكون ساعات تعينهم على تحديد الأوقات، فكان رحمه الله يرفع السراج عند بداية وقت الإفطار بعد أن يضرب قطعة الحديد بالمطرقة ويصل الصوت إلى مسافات بعيدة، فيعرف الناس أن وقت الإفطار قد حان، ويبقى هذا السراج مشعلاً طوال الليل حتى وقت الإمساك حيث يقوم بإطفاء السراج.
كانت البمبوة لدى أهل المنطقة عاملاً مهماً لتحديد أوقات الإمساك والإفطار.
وكان أيضاً يقوم بضرب قطعة الحديد وقت الإمساك ثم يُنزل السراج.
لم أكن قد ولدت بعد وقت أن كان جدي قد اخترع البمبوة وقام بتشغيلها، ولكنني شاهدت آثارها وبقاياها وأخشابها وبعض الحبال التي كانت موضوعة بسطح الدار. وكان رحمه الله يستعين ببعض الساعات الميكانيكية الكبيرة التي تعتمد على الباندول المتحرك، وذلك لتحديد التوقيت. وقد شاهدت بعض هذه الساعات التي تركها بعد وفاته رحمه الله.
يتبع …..