حينما تفارق صديقاً كأبيك

الشيخ صالح الغانم
وقفة تأبين لروح الأب الوجيه الحاج عبدالله علي الخلف
بلا شك أن لفقد الأب وجع لا يشعر به إلا الفاقد لأبيه فعلا و لأنني كنت لهذا الفقيد بمثابة الابن جرفتني أمواج الحزن و الثكل لأشارك أبناءه الكرام هذا المصاب الجلل
و لأعبر عما في قلبي لهذا الأب المؤمن الذي تعلمت منه في محطات حياتي كثيرا من تجاربه و مسيرته.
و لذا سيكون للحزن بالفقد طعما آخر لا يشعر به إلا من عرف الحاج الفقيد – رحمه الله – عن قرب .
كانت الآمال تستجدي خروج الحاج عبدالله الخلف من المستشفى معافى يرفل بثوب الصحة و العافية
و لكن الأقدار كانت تخيط أكفانه بهدؤ و سكينة.
كنا ننتظر ذلك الرجل الحكيم بفارق الصبر فبين كل يومين اتصل لأطمئن على صحته آملا في عودته إلينا لنعود لينابيع الحكمة و لطائف المودة.
تعلمتُ من هذا الرجل كثيراً من قصص الرجال و تجارب الحياة التي تحوي تجارب حاكتها السنين و نسجتها الأيام
و على الرغم من أن الحاج المرحوم كان أميّا لا يقرأ و لا يكتب و لكن كان نابهاً يقتنص الفكرة و يدرك التجربة و لحبه العلماء كان ملازما لهم مستمعا لأقوالهم حريصا على تطبيق أحكام الشريعة كما تعلمها يحب الشعر الولائي و يحفظه و يقرض على منواله.
في مطلع التسعينيات الميلادية يرن في مسامعي صوتاً شجياً في المسجد الجامع بالطرف، من هذا المؤذن الشجي الصائت؟
فيقال: هذا الحاج عبدالله الخلف أبو علي.
كان آذانه مميزاً و جاذباً يجبرك على الإصغاء يأخذ بمجامع قلبك نحو الطمأنينة و الوجل الروحي نحو الإله.
منذ ذلك الحين تعلقت به و نشأت العلاقة، إذ كان يعتبرني كأحد أبنائه الكرام، فكنت أزوره و أصطحبه معي لبعض أعلام الأحساء أو لمجالسي الحسينية و من المؤكد أن يكون الحديث هو فاكهة جلوسنا و ذهابنا في الطريق، فأنا مستمعاً و هو متكلماً ينثر لآلئ الكلام و يشحذ جواهر الأفهام
فمن حكمه التي لا تنسى:
(الموعظة من المتعظ تعظ)
و يالها من حكمة في صميم الحدث و بناء الذات حيث إن لم تكن على مستوى الموعظة و القيام بها فكيف تعظ بها و ترشد لها.
و أيضا مما كان يردده دوما:
(قال هات من يقرأ قال هات من يفهم)
فليس الكلام مهماً مادام ليس هناك من يستوعب الكلام أو يفهمه ليطبقه.
و آخر الحِكم التي لم تغب عن ذهني في أواخر أيامه حول مرض (كورونا كوفيد 19) و يالها من حكمة مفعمة بالإيمان بالله فإلى اليوم و ما بعد اليوم أفكر فيها و أرددها كان يتكلم متسائلا:
( إن كان هذا الأمر – يعني مرض كورونا – من الله فالله أعلم بعباده و أراف بهم، و إن كان هذا الأمر من الناس و الله يعلم بما يفعله الناس في عباده فلله الأمر كله)
اختصر لنا الإيمان بالله سبحانه و تعالى في هذه الكلمات المنيرة الهادفة ليجعل الإيمان بالله و قضائه و قدره أمام عينيه في كل اللحظات و الأوقات.
لا أبالغ إن قلت في كل لقاء أخرج بفائدة عابرة أو حكمة مسافرة أو قصة سائرة.
اصطحبته معي إلى المدينة المنورة مع بعض الحملات و كنا في غرفة واحدة فما رأيته ترك صلاة الليل ليلة واحدة طوال سفرنا، و أيضا إذا أردنا الخروج للحرم النبوي الشريف يلبس أحسن ثيابه و يتزين بتمشيط لحيته و التعطر بأجود أنواع العطور و يلبس البشت مصطحبا سجادته معه كان يلاحظ بعض التصرفات التي لا تليق بالحرم الشريف من لباس و غيره لينبه على أن ذلك لا يليق بحضرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالزائر لابد أن يكون على أحسن صورة حين دخوله الحضرة النبوية على صاحبها و آله آلاف التحيةو السلام.
أتذكر في أواخر أيامه كنت أحضر عنده مصطحبا معي ابن عمي الدكتور موسى الجاسم – حفظه الله – للنظر في بعض شؤونه و حاجاته الصحية أو الدوائية يفتح لنا قلبه بحديث تهش له النفس و تنسى وقتك معه و لا تشعر بالملل بين يديه.
كان الحاج عبدالله الخلف أحد ركني التغيير في بلدتي الطرف – مع المرحوم الحاج عبدالمحسن البن صالح عليه الرحمة و له المغفرة – في توجيه المؤمنين نحو المدائح الولائية لأهل البيت – عليهم السلام- كبديل للعرضة الشعبية و لأنه شاعر بالفطرة كان يختار أبياته بعناية فائقة خاصة في المراثي لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام
من أبياته التي نظمها و كتبتها مشافهة عنه في رثاء الإمام الحسين عليه السلام:
يلا يا زينب د قومي و اركضي له بالعجل
و اندبي لحسين طايح وين عباس البطل
لا أحد يمك يداري هالخيم وي الطفل
راحوا إخوانك يا زينب بالذبح في هالفضا
####
قالت أنا اللي لواني الدهر من دون البشر
و انظرت لعيال اخويه مشتته بين الحضر
و الشمر يضرب عزيزي حسين من فوق الظهر
و أنا اركض بين لخيام و عزيزي بالفضا
كان يقول الأبيات و دموعه تنهمر على خديه و أنا أكتب تلك الأبيات حتى لا طويها الزمان و تمحوها رياح النسيان.
كان الحاج عبدالله الخلف كما يعلم الجميع يودي صلاة الجماعة في كل الأوقات لأكثر من ثلاثين سنة سجادته خلف سماحة الشيخ محمد الشريدة – حفظه الله – في الجامع و كان وجوده ليس للصلاة فقط و إنما لتقديم المشورة و الرأي للشيخ و لمن يطلبها منه، و حتى أواخر أيام حياته كان متعلقا بالمسجد يصرّ على أبنائه بأن يأخذوه للمسجد
يصافح بقلبه الملائكة و يلتقي المؤمنين ليشاركهم في أعيادهم و مناسباتهم.
اللحظة الصامتة:
بعد صلاة العشائين من يوم السبت ليلة الأحد فتحت الواتساب لأجد نبأ رحيله – عليه الرحمة و الرضوان – لم أصدق ما تراه عيناي أعدت النظر لأتحقق من الخبر فكان كما جاء الخبر، عادت بي الذكريات ل 25 سنة قضيناها معه بين العلم و الحكمة و لطائف الحكايات.
ثم جاءت لحظات الوداع في المقبرة التي لم أتخيلها و لكن هي الدنيا لابد من الرحيل و الفراق
فتمثلت قول أبي الطيب المتنبي(بتصرف) :
و جلا الوداعُ من الحبيب محاسناً
جَلَلا بفقدٍ فاقهُ التبريحُ
فَيَدٌ مُسلِّمةٌ و طَرْفٌ شاخصٌ
و حشاً يذوبُ و مدْمعاً مسفوحُ
يجدُ الحَمام ولو كوجدي لانبرى
شجرُ الأراك مع الحَمام ينوحُ
رحمك الله أيها العبد الصالح أبا علي و أنزل عليك شآبيب الرحمة و ندى الرضوان و أكرم نزلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.