أقلام

في بـيـتـنا حامـض حلو (قراءة في ديوان)

إبراهيم بوخمسين

في هذه القراءة للديوان الشعبي (حامض حلو) للشاعر الجميل ناجي بن داود الحرز حاولت أن أتناول بعض النواحي الجمالية والكلمات الشعبية التي وردت في بعض قصائد الديوان الذي لا تمسك مشاعرك حينما تقرؤه أن لا تضحك، بل لا تكاد تخلو قصيدة من وقفات مضحكة ومسلية، ويتراءى للقارئ أن شاعرنا قد استفرغ كل وسعه ليخرج لنا هذا الديوان الذي يعد من الوثائق التي حفظت لنا الكلمات الشعبية والمحلية في قالب مضحك ومتحرك.


سيرى قارئ هذا الديوان كيف طوع شاعرنا الكلمات الفصحى وليّنها إلى كلمات دارجة محلية وشعبية، ولو أردنا تشبيهاً لملكة هذا التطويع، أوردنا قوله سبحانه لنبيه داود عليه السلام” وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ” لحق لنا أن نقول لابن داود: ” وألنا له الكلام أن اعمل سابغات من القصائد وقدر في السرد”.
– نراه قد ليّن الكلمة في أية صيغة من صيغها اللغوية من فعل واسم وصفة….. و…و…فهي طوع يديه. والأمثلة على ذلك كثيرة، فمن باب المثال لا الحصر: تـْـمزّ، تـْـوِزّ، كَـفـَخْ، تـلوطـخ، أوْزنه، ما نـيب، قـرقة، اللولاش، بخـوش، ما هـقِـيـناك، اشـبـتـقـول، بربرة، قـيلولة…..وهكذا.

– ظاهرة أخرى: هي ظاهرة الرصد واستغلال الحدث، فلا تكاد ترى قصيدة إلا ولها حكاية وقصة في هذا الديوان، يقولبها ويرسمها في لوحة شعرية ضاحكة وساخرة تدخل البهجة والسرور على قلب قارئها.

– من الظواهر البارزة أيضاً في هذا الديوان، أن قصائده ليست بالقصيرة المقلة ولا بالطويلة المملة، فإن كانت قصيرة فهي تصيب الهدف والغرض، وإن كانت طويلة ففيها تكامل النسق والحدث.

– حفظ الكلمات الشعبية وليس هذا فقط، بل وحفظ بعض الأمثال الشعبية وستجدها متـناثـرة بين قصائد الديوان.

– قال شاعرنا في قصيدة ” لاقيتها “:
أنا الذي لو قلت بـيـتـين … كل الـبـنات ارياقها تـْـمـزّ
فكلمة تـْمـز مأخوذة من الـمـز ومعـناه: مـزَّ الشَّرابُ :اشـتـدّت حموضتُه، صار طعمُه بين الحُلو والحامض فـهـو مُزّ. والـمز هو مص الشيء ورشـفه.
فـشاعرنا هنا واثق من نفسه بأنه حـينما يـنـشد بـيـتـين فـسوف تـشرئب أعـناق الـبـنات وتـتـبالع أرياقـها من حـلاوة الحامـض حـلو، ولذلك نـراه يـخاطـبها في نـهاية الـقصيدة:
روحي اسألي ليل المحبـّين …قـالت: عــرَفْـــتك ناجي الحرز
– ومن قصيدة ” يوم الوصول “:
إشـخانـت اللي ما يـسـيد وما يـبـيد؟ … ســجّل اسـمه وحـط تـحت اسـمه: مهـبول
وجـذر كلمة إشـخانت الشعـبـية: خن ومنها خان، وخانـته رجلاه لم يقدر على المشي، وخـانه ظهره: ضعـف.
وجاءت هـنا بمـعـنى شفايـدته أي ما هي فـائدة من لم يسيح في الأرض ويطلع على أحوال المجتمعات، فإن لم يفـعل ذلك فـَيـُسـتـَحـق أن يسجـل اسمه في ديوان المهابـيل.

– وفي قصيدة ” قـرقـة” نقـرأ:
بـعـض الأوادم عـندهم حـرقه
للـقــيـل والـقـلـقـال والـقـَـرْقــه
يـشـيـل ويـحـط ويـنـزل ويرقه
بعـشريـن كلـمة ما علـيهم زود
ثم يقول:
وتعال شـوف الصفقة واللـولاش
جنّ احنا في فرقة سمـر عـمّاش >> “الجيم في جنّ تحتها ثلاث نقط”
ما باقي الا النـقطة والـشـوباش
وهز الـوسط بين الزمر والعود!!
والقـرقة مأخـوذة من قَـرَقَ: (فعل) وقـرَقَ يقـرُق ويَقـرِق، قَـرْقًا، فـهـو قارق. قَـرَقَ الـرَّجُلُ: هَـذَى، أَيْ تَكَلَّمَ بِـغَـيْرِ مَعْـقُـولٍ لِـمَـرَضٍ أَوْ جُـنُـونٍ.
وأما كلمة لولاش: فهي الـزغرودة، والزغروتة، والـزغروطة، أو الهلهولة وتسمى أيضاً الـيـباب أو الغطرفة في الخليج العربي.والزغاريت جمع التزغريته في المغرب العربي، هي صوت الـولولة، وتـصدر بالتحريك الجانبي للسان داخل الفم على أن يكون متتابعاً، مع إصدار الصوت بإخراج الهواء من الحلق بقوة وقد تتم الاستعانة باليد، ويكون الصوت الناتج هو زغرودة ” الـولاش”
وأما كلمة شـوباش: وإن بحـثـت عن معنى كلمة “شوباش” سـتجد أن أصل هذه الكلمة تـنـدرج تـحـت قـائمة كلمات قـامـوس الـتراث الشعبى المصرى. وتعـود إلى اللغة الهيروغليفية القديمة، ويقال عنها رأيان: الأول يقسم الكلمة إلى جزأين “شو” بمعنى “مئة”، وباش بمعنى “فرحة وسعادة”، وعندما تقوم بجمع الجزأين ستجدها “مئة فرحة” لذلك كانت تقال فى الأفراح الشعبية ” شوباش يا أهل العريس ” ويقولون ” شوباش من يعطي النقوط ” والنقوط المال يعطى لقارىء المولد في الأفراح.
أما الرأى الثانى فيرجعها إلى تـماثيل “الشوباشى” وهى تـماثيل صغـيرة كانت تـوضع فى قـبر الميت لترديد الدعاء له حتى موعـد البـعـث، ولأن هذه الكلمة كانت تـقال بـنـبرة أسف وحـزن تم تـداولها عـبر العـصور حتى أدخلتها الحارة الـمصرية ضمن قاموس كلمات المشاجرات، فكل يقولها حسب السياق الذى يـقـصده.
– ” عضنّي قرّوص”
أما عاد هذه خـوش قـصـيدة، يـقـول في مطلعها:
عـضّـني قـروص في بـيـت الطويـل … والـفـخـذ مني وَرَم من عـضّــتـه
إلى أن يقول:
وافــرشــوه بــخــوش ســجّـاد بـديـل … والـدواشـق والـمسـانـد حـاطته
ومعنى كلمة “خـوش” أي الشيء الطيب والجيد. وخُشْ في قولِ الأعْشَى: مَعَـرَّبُ خُوش، أي الطَّيِّبُ. وجذر الكلمة لها معاني كثيرة تطلب من معجم المعاني الجامع.
وتأتي بالفـارسية خـوش آمـديد أي على الـرحب والسعـة، وإن قـلنا خـوش دهن أي دهن لطـيف وإن قـلنا خـوش ذوق أي ذوق لـذيذ…وهـكذا.
– ومن قصيدة: ” سلام يا مضروب”:
تسـتحي بالحـيـل وتـغـض النظر … وما تـخـز الطير مـن خـلـف وأمام
وللـنهـد ما يْـمـزّ ريـجـك لو كـبَر … وما تـبالي وحالـتـك تـصبح عـدَام
وكلمة بالحيل هنا بمعنى كثير وهبشه، و الحَيل: بالفتح (اسم) وجمعها: أَحيال، وحُـيُـول
والحَيْلُ: هو الماءُ المتجمِّع في بطْن الوادي، وتأتي الحَيْلُ بمعنى القوّة والمقدرة، وما له حَـيـْل اللَّهُمَّ ذَا الحَـيْـلِ الشَّـدِيدِ (حـديث)، وعلى حـيله: قائم، منـتـصب، وشُـدَّ حَـيْـلَكَ: شُدَّ عَـزْمَكَ وَقُـوَّتَـكَ.
وتخز الطير هنا أي تمعن بالنظر المركز، والطير هنا تعبير عن المرأة. أي أنك تـستحي كثيراً لدرجة انك لا تـركز بالنـظر على الـنساء ولا تـجـسها من فـوق إلى تحـت إلى آخر المعاني. وما هـنا للنفي، ولكن الشاعر طبعاً يقصد عكس ذلك.
وكلمة ” ريـجـك ” أصلها ريـق وتـنطق بالعـامية ” ريـج “. والـرِّيقُ: ماءُ الفـم واللُّعاب. وجاءَ على الرِّيـقِ، وعلى رِيـق نفْسـِهِ: لم يَطـعمْ شيئا . وبلَـع ريقَه: تـوقـف قـليلاً للرَّاحة أو لالتـقاط أنـفاسه، وتـقال عـادة في مـواقف الإحـراج أو الخوف.
– ومن قصيدة: ” الكديش “:
وانـت مـثل النار في راس الـعـلم … عارفـيـنك مـثل خـبزِ يْــدينه
والكـديش هـو الـفرس غـير الأصيل. وكـَدشَ الشيء قـطعه بأسنانه. والكَدَّاشُ: هـو الشحاذُ
والكَـدَّاشُ: المُكَـدِّي بلغة أَهـل العـراق.
وكلـمة ” خـبزِ يْـدينه “: هذا التعـبيـر مجـازي يقال: فلان خُـبْز يـدي، أو أنا خابزه وعاجنه كناية عن أنني أعرفه حَقَّ المعرفة كما لو كنت عملته بيدي، وهو مثل أو تعبير اصطلاحي جرى مجرى المثل، وشاع استعماله عند الناس بهذا المعنى المجازي وله صُوَر أخرى من النطق حسب اللهجات. وهذه التعبيرات إفرازات لتجارب الحياة وتختلف من مجتمع لآخر.
– ومن قصيدة ” قالوا تجوز؟!!:
ما يـزول طبعه لو تـزول الجـبالا … حّـمال رايات الـبخل في هَلِ الشـرق
يحاول شاعرنا بنقد بعض الظواهر الغير حسنة في المجتمع المحيط به ويدعم نقده بالأمثال الشعبية السائدة ومن بين تلك الأمثال ما ساقه الشاعر في بيته المذكور.
المثل يذكر بأوجه متعددة والمعنى واحد، فهو يذكر هكذا ” يزول جبل ولا يزول طبع “؛ والمقصود بالطبع هـنا طبع الشخص وما تعـود عليه، فلكل فـرد طباع يكون بعضها حسناً وبعضها غير حسن.
وأيضاً يأتي المثل هكذا “حدّر جبل ولا تحدّر طبع”، ويعني سهولة هدم وتسوية الجبل على ضخامته وصعوبته، في حين يصعب تعديل طبع شخص تعود عليه، ويقال في هذا الشأن أيضاً: “أبو طبيع ما يخلي طبعه”، وأيضاً “عود عادة ولا تقطع عادة”، والعادة هنا هي الطبع القديم في الشخص ويبدو أن حرص المجتمع على سلامة أفراده من الطباع غير المرغوب فيها هو الذي جعله يؤكد حسن اختيار العادات وتجنب السيئ منها، فكثرة الأمثال الشعبية التي تتجه لشيء معين تؤكد اهتمام المجتمع بهذا الشيء أياً كان، والعادات من أهل ما يسير المجتمع ويتحكم في أسلوب حياته، فلها تأثير قوي ولهذا يراد لها أن تكون عادات إيجابية حسنة نافعة، ففي حالة وجود عادة سلبية وانتشارها على مستوى عدد قليل أو كثير، فإنها تسبب للمجتمع مشكلات كثيرة لا يصبر عليها ولا يقوى على التخلص منها بسهولة؛ لأن من طبيعة العادة والطبع التمكن من الشخص والتحكم فيه، وهذا لا يعني أننا لا نقوى على التحكم في العادات وتغيير الضار منها، ولكن المثل الشعبي جاء ليحذر ويبالغ أحياناً من أجل أخذ الحيطة.
– ومن قصيدة ” عجل الحمر”:
يـوم الـذي عِـجْـلِ الحَـمَـرْ … عـزّم يــدشّ الـبـورقـة
وضف شاعرنا ثلاث كلمات شعبية في شطر واحد وهي:
عـزّم: وهي الإقدام بشدة وارادة قويه وبشوق
يـدشّ: ومعـناها دخـل في، والأصل دَشَّ: (فـعل)
دشَّ / دشَّ في دَشَـشْـتُ، يَدُشّ، ادْشُـشْ / دُشَّ، دَشًّا، فهـو داشّ، والمفعـول مَـدْشوش ودشـيش، دَشَّ الخَطِـيبُ فِي كَلامِهِ: أكْثَرَ مِنْـهُ، دَشَّ فِي الأَرْضِ: سَارَ فِـيهَا، دَشَّ الحَـبَّ: جَـرَشَهُ.
الـبورقة: وهي من الكلمات المحلـية الشعـبـية وكانت الـبوارق قـديما تـوجد في البـيوت وفـيها البقـر والغـنـم وكان أهـلونا يربونها ويستـخـدمون حـليـبها ولبـنها ويصنعون منها الأجبان والروب الزبادي، وتـسمى أيـضا بحظـيرة الـبقـر والغـنم وتـسمى بالـزريـبة والسـمادة أيـضا.
– ومن قصيدة ” جنز “:
يلعن آبو الجنز واللي صممه … مَــرمّــر قـلوب الـبـشر تـصمـيمه
وكلمة مَرمَر تعني بَـهـْـدَلَ، وفي قاموس المعاني: مَرْمَرَ الْمَاءَ: جَعَـلـَهُ يَمُرُّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. مَرْمَرَ الوَلَدُ: غَضِبَ.
والمعنى ما قلناه أولا، وكلنا يعلم بهذه الكلمات التي تأتي من عمق تاريخ العراق على لسان ناظم الغزالي:
مـيحانه مـيحانه
غـابـت شـمسـنا الحلـو ما جـانا
حـيّـك بابا حـيّـك .. ألـف رحمة اعلى أبـيّـك
هـذولا العـذبـوني .. هـذولا الـمرمـروني
و على جـسر المـسيّـب سـيّـبوني

– ونختم قراءتنا لهذا الديوان الجميل بهذه الأبيات لقصيدة ” قيلولة “:

لا تـتـصل بي سـاعـة الـقــيـلـولة … تـرى الـبـراغي كلـها مـحـلـوله
والـناس يابن الـناس في هالساعة … تـصـدق عـليـهـم كـلمةٍ مـقـيولة
اللي مْـسَــرح عجـلته في الصكة … واللي مطـير في الـسما بلـبــوله
اشتملت هذه القصيد على قصرها على عدة كلمات محلية ككلمة محلولة ومقيولة وكلمة مْـسَـرح وصكة، كما أشارت إن لم يخطئنا التعبير إلى مثل مشهور في هذا المقطع ” اللي مسرح عجلته في الصكة “، وهذا المثل هو: ” إذ طلعت تجيك حمارة القايلة “.
عادة ما يكون الناس متعبين في فـترة القـيـلولة وهي نومةُ نصفِ النهار، أو الاستراحة فيه وإِن لم يكن نوم.
لكن الشاعر وصف بهذا الوصف الدقيق ترى البراغي كلها محلولة فهو استخدم مفردات الآلة وعادة إذا ما انحلت براغي الماكنة فإن أجزائها تـتـفـكك فهو استـعار هذا المعنى ليوضح كيف يـتـفـكك بـدن الإنسان من الـتعـب.
ورجعا على الـقـيلولة التي كان آباؤنا يخوفـونـنا بها. من منا لم يهـدد في الصغـر بهذا الـمخلوق الشهـير الخرافي “إذا طلعت تـجـيـك حـمارة الـقـايـلة”. وربما اراد شاعـرنا هذا المعنى.
طبعا هذه الحَـمَّارة لـيست بحـيـوان ولا يحزنون إنما هي أي ” حمّارة القيض ” بتشديد الميم، ولقد ورد في بعض خطب أمير المؤمنين ما يوضح هذا المعنى: ” إن أمرتكم بالمسير إليهم في الحر قلتم حمارّة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ الحر) أي شدته. وإنما كان أهـلـونا يخوفـنا بها حرصهم على سلامتنا من الحر واهل السوء في مثل هذه الساعات وهي من ساعات الغفلة والهدوه. ومِثـْل هذا المَثَل: : لا تجيك أم السعف والليف”، وما هي أم السف والليف؟ إن هي إلا عمتنا النخلة!!.
حقا هو ديوان جميل خفيف طريف اسعدني اقتنائه وقراءته لما حواه من طرائف وظرائف ونقد لطيف ووخز خفيف.
نشكر الشاعر الجميل ناجي بن داوود الحرز على هذه المائدة الأدبية الخفيفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى