الأنسان تلك الثروة.. الدكتور أحمد مثالاً
د. موسى صالح الحداد
عندما تستحضر الأحساء فأنت تستحضر واحةٌ متجذرةٌ في ذاكرة التأريخ. لم تكن الأحساء أسماً عابراً قط بل تاريخاً نابضاً بالحياة. عُرِفت الأحساءُ منذ القدم بأنها واحةٌ خضراءُ مشبعةً بجمال نخيلها ومرهفةً بجداول مياهها، متشبثةً بالتأريخ بقوة جبال العيون و الشعبة و القارة.
الأحساءُ ذلك المعلم الحضاري ليس نخيلاً ورمالاً ذهبيةً ومياه عذبه تدغدغ شاعرية الشعراء، بل يتربع فوق ذلك الجمال كله إنسان الأحساء ذلك الإبن البار، الذي تشّربَ من جمال واحتها جمالاً لروحهِ ومن جبالها أصراراً لعزيمتهِ، ليكون بذلك رقما صعباً كرطبها و تمرها و عليل هواءها وأغلى ثرواتها.
و حيث كانت الأحساء منذ قدم التاريخ ذات مكانةً مرموقةً، فمازالت تتحفنا يوماً بعد يوم بجملةٍ من الإنجازات الباهرة سواءاً على مستوى الواحة وثقافتها أو على مستوى إنجازات أبنائها، وستظل هذه الواحة معطاءةً ما زال للزمن من غدٍ.
ومن بين جنبات النخيل و ضفاف مياهها ومن أعلى قمم جبالها يأتيك إنسان الأحساء عالماً، وأديباً، أستاذاً و طبيباً، مهندساً وفناناً، ولا يخلو فناً من الفنون أو علماً من العلوم أو أدباً من أبواب الأدب إلا ووجدتَ لأبن هذه الواحة بصمتهِ التي لا تمحى حافرة في صخورها، مسجلاً أسمه في كتاب التأريخ. ومن بين هذه الرموز التي تفخر بها الأحساء أبنها البارع الدكتور أحمد بن ناصر البوعيسى.
بزغ مولد الدكتور أحمد بن ناصر البوعيسى بتاريخ 28/11/1962 في مدينة الهفوف ( الرفعة الشمالية) من بيتٍ عرف عنه الولاء والطيبة و الأخلاق الفاضلة. ترعرع بين تسعة أخوة ذكراناً وأناثاً ويأتي بينهم رابعاً في الترتيب. صاحب والده وأكتسب منه حب عمل النجارة حتى أجادها ولم يتركها حتى أخذت منه مهنة الطب مأخذها، وقتاً و جهداً. وكأقرانه في منطقته التحق بالأبتدائية بمدرسة الأمام علي عليه السلام، كما التحق بمتوسطة الحديثة وأكمل ثانويته في مدرسة الملك خالد بالهفوف. خلال هذه السنوات أحب رياضة كرة القدم وألتحق بفريق السرو الرياضي.
بعد أكماله المراحل الدراسية الأولى التحق بدراسة الطب بجامعة الملك فيصل بالدمام. . تزوج سنة 1987 الميلادية، ولم يزل طالباً في السنة الرابعة. وكان ثمرة هذا الأرتباط المقدس ستةٌ من الأبناء. تخرج سنة 1990 و أنهى الامتياز سنة 1991 الميلادية. التحق بعدها بوزارة الصحة و عمل لمدة 4 شهور في المراكز الصحية. بزغ نبوغه و فطنته منذ أيامه الأولى أذ تنقل عنه القصة المشهورة عند قرية المنيزلة التي عمل شهرين في مركزها الصحي حيث أكتشف انتشار حالات الإصابة بالاميبا (مرض طفيلي معدٍ و خطير، ينتقل بأشكال كثيرة، ويصيب غالباً منطقة الأمعاء الغليظة. وخطورته تصبح أشد حين يقفز الى الكبد فيهدد حياة المريض بصورةٍ مضاعفة)، و تواصل مع العمدة والصحة والبلدية ليتم اكتشاف وجود تلوث في مياه الشرب فتم توفير خزانات الماء العذب للجميع.
وكأولى مراحل الأبداع للدكتور أحمد أن تمكن من أن يجتاز عدة أجازات في أختبارات للزمالة، سردها تفصيلاً الأستاذ سلمان حسين الحجي في كتابه “هكذا وجدتهم” حيث بدأها من مستشفي الملك فهد بالهفوف ببرنامج الزمالة السعودية في الجراحة العامة سنة 1991 و في سنة 1993 ذهب إلى الرياض ليلتحق ببرنامج جراحة العظام، واستمر الجهد و المثابرة الى أن تكللت سنة 1999م برجوعه الى مسقط رأسه الهفوف متسنماً أدارة قسم العظام بالمستشفى.
مع هذا الدور و المسؤلية الجديدة قفز قسم العظام بالمستشفى لأن يكون أحد المراكز المعتمدة لدى الهيئة السعودية للتخصصات الطبية وصنف كأفضل ستة مسشفيات بالمملكة لجراحة العظام. وأستمر العمل بالمستشفى في وحدة جراحة عظام الاطفال وجراحة تقويم العظام لمدة 20 سنة وكان الوحيد في كامل منطقة الاحساء. شاعت مهارته في فن جراحة العظام بين الأقران و المرضى على حد سواء. فعلى يديه تصبح أصعب العمليات سهلة المنال مكللة بالنجاح.
لم يكن التعليم والاشراف العلمي اقل شاناً في حياته العملية. فقد أسس برنامج الزمالة السعودية في جراحة العظام والتخدير وقت ترأسه إدارة قسم العمليات. اشتهر بحرصه على تشجيع الأطباء بجميع فئاتهم على نهل العلم وتعلم فنون الجراحة والطب. فتدرب على يديه وفي وحدته الكثير من طلاب الطب والأطباء المتدربين والمتخصصين في جراحة العظام ناهلين من جودة علمه. ولم يكن ذاك الطبيب الذي تغيب أنسانيته في تعامله مع طلابه، بل كانت علاقتة الأخوية عنواناً جلياً في علاقته مع الجميع، أطباء و اداريين ومرضى.
ولم تقف الأنجازات عند هذا الطموح بل توالت الأنجازات ليكون بعدها رقماً صعباً بين أقطابها تؤهله ليتسنم مركزاً مرموقاً بين أقطاب هذا الفن وليطرز مسيرته بأن يكون مرجعاً من بين مراجع أطباء جراحة العظام وكاتباً ومحاضراً و محرراً ومحكماً لمجلاتها العلمية.
ولعل القول بأن قلوب الأطباء جامدةً منزوعةً عنها عاطفيتها ورقتها تكذبه ما ينقل عن حالةِ أحد الأطفال الصغار اللذين فقدوا نعمة َالمشي على القدمين، والتي أمتزجت فيها العبقرية و البراعة بالرقة و العاطفة، فلقد أنعم اللهُ على هذا الطفل بالمشي على يدي الدكتور أحمد وما أن أتاه ماشياً إلى عيادته حتى ضمه بأحاسيس الأب، وما أن التصق الأب بأبنه حتى أنهمرت عيناه فرحاً وسروراً. كما تنقل عنه حالة مريض مبتلى بالسمنة المفرطة التي أقعدته وأفقدته القدرة و النعمة على المشي، وشاء الله أن يلبسهُ ثوبَ الصحةِ و العافيةِ على يديه.
الوضع الأجتماعي
أستمرعطاء الدكتور أحمد الطبي منذ تخرجه سنة 1991 إلى أن تقاعد رسمياً من العمل الحكومي سنة 2021 ميلادي. ولم يكن قراراً بالانقطاع التام عن العملِ الطبي إذ ما زال يمارس الطب وإن كان من خلال إحدى المستشفيات الخاصة في منطقة الأحساء.
لم يكن الجانب الطبي في شخصيته طاغيةً على جانبه الاجتماعي والإنساني. والذي يعرف شخصية الدكتور أحمد عن قرب يلمس مدى أندماجهُ في مجتمعهِ يدفعه الأحساس بالواجب، أذ لا يرى نفسه إلا أبناً لهذا المجتمع كما أن له حقوق عليه واجبات أتجاهه. وهو من هذا الجانب الأجتماعي و الإنساني له من المساهمات الاجتماعية ما تبرز انسانيتهُ ولنا أن نذكربعضا منها:
1- كان له دورا بارزاً في فترة الحجر الكلي لفترة جائحة كورونا في بث التثقيف الصحي من خلال تطويع الاتصال المرئي مما أسهم في تقليل الأثر السلبي للجائحة على نفسية المجتمع.
2- له عدة مبادرات مجتمعية من أبرزها الإسهام في تبني وأنشاء فريق الدراجات بالحي
3- على اتصال وثيق مع الجمعية الخيرية بالحي كشخصية اجتماعية فاعله
4- تبني اليوم الرياضي المفتوح لحي الحوراء بالتعاون مع نادي الجيل الرياضي حيث يقام بصورة سنوية لكافة الأعمار ليكون يوماً تقام فيه الكثير من الفعاليات الرياضية و الترفيهية والفنية و الأجتماعية لتوثيق أواصر المحبة و الألفة بين الجميع.
هذا الارتباط الوثيق بالمجتمع تمخض عنه حباً وأحتراماً متبادلين، فكثيرا ما تلقى مبادراته وإرشاداته وتوجيهاته المجتمعية آذاناً صاغية لدى أفراد مجتمعه.
عندما تذكر الدكتور أحمد البوعيسى فأنت تستحضر الشخصية الجذابة للدكتور صادق العمران رحمه الله، فبالاضافة إلى المرافقه الأخوية للإثنين منذ الأيام الأولى لصداقتهما في الدراسة الثانوية مروراً بالدراسة الجامعية و السكن سويا في الحرم الجامعي. و حيث تجذرت بالمصاهرة، عندها تزول عنك الدهشة وانت تسأل عن قدر الألم والحزن اللذان تلبساه عنده صعود روح الدكتور صادق رحمه الله إلى بارئها ، ولعل كلمته في حفل التأبين حاكية عن حالة الحب الذي جمعهما.
وفي الختام،،، لقد خلد التأريخ كيف تندثر بعض الحضارت و يغيب أرثها التأريخي، ولكن عجلة الزمن لا يمكنها ان تأتي على الأحساء فتمحي ذكرها، ذلك لأن مقومات الأحساء عصية على الأندثار، وعطائها لا ينضب، فبالأضافة الى نتاج أرضها، يسمو عطاءها الأنساني فوق كل عطاء، فيوماً بعد يوم تردف الأحساء البشرية بأثمن ما يكون العطاء. وهل هناك أكثر ثمناً من الأنسان؟!.
واننا أذ نوثق لشخصيات علمية او اجتماعية أو ثقافية لأنسان الأحساء لهو من بابِ الواجبِ التأريخي أولاً، فالأحساء كما أعطت يجب أن تخلد عطاياها ومن أجمل عطاياها، ابنائها. ثانياً هو الأحساس بمسؤوليةِ ابراز مثل هذه الرموز التي ذابت عشقاً في العلم والعطاء الأجتماعي، فأقل ما يقدم لهم هو توثيق مسيرتهم البيضاء لتكون نبراساً للأجيالِ القادمة و شاهداً للتأريخ.
شكرا خاص للأستاذ أحمد الطويل على مابذله من جهد و تنسيق لأخراج هذا المقال بصورته هذه