الترابط الاجتماعي في فكر الإمام الباقر عليه السلام
السيد عبدالله السيد هاشم العلي
ليس ترفاً الحديث عن أهمية الترابط الاجتماعي في الإسلام، بعد أن تم التمهيد له من خلال مجموعة من الأسس والمبادئ العامة، كانت بمثابة البنى التحتية التي عملت على بلورة فكرة الترابط الاجتماعي، وفي طليعة هذه الأسس والمبادئ:
أولاً : الأخوّة الإيمانية: فقد قام الدين الإسلامي على بناء وتدعيم هذا المبدأ
الذي أحدث إنعطافاً اجتماعياً حاداً في أنماط تفكير وسلوك الغالبية الغالبة من المسلمين، حيث كان الإنسان الجاهلي قبل الإسلام منكفئاً على ذاته، ومتقوقعاً داخل أسوار نفسه، فغدا بفضل الإسلام إنساناً اجتماعياً يشعر بمعاناة إخوته، ويمدّ يد العون لهم، ويشاركهم في مكاره الدهر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النقلة الحضارية، حيث في قال سبحانه وتعالى{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[آل عمران: 103].
وكان للنبي صلى الله عليه وآله الدور البارز في هذه النقلة الحضارية من خلال تأكيده على مبدأ الأخوة وما يستلزمه من التزامات اجتماعية كقضاء حوائج الإخوان وإعانتهم، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله روايات كثيرة في هذا الجانب منها أنه قال:
– من سعى في حاجة أخيه المؤمن ، فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة ، صائماً نهاره ، قائماً ليله.[من لا يحضره الفقيه: 2 : 190 ].
– من مشى في عون أخيه ومنفعته، فله ثواب المجاهدين في سبيل الله.[ثواب الأعمال للصدوق: 288].
فهنا نجد أن قضاء حوائج الإخوان وخاصة تلك التي لابد منها لاستمرار العيش الكريم يرفعها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إلى درجة العبادة العملية التي تستلزم الثواب الأخروي الجزيل.
وقد أتم أهل البيت عليهم السلام هذا الدور قولاً وعملاً من خلال أقولهم وسيرتهم عليهم السلام والتي تعكس حالة الترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع، فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: خير الاخوان من لا يحوج إخوانه إلى سواه.[غرر الحكم للآمدي1: 350].
وهذا حفيده الإمام الباقر عليه السلام يقول: لأن أعول أهل بيت من المسلمين… أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم ، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة [وحجّة] ، ومثلها حتى بلغ عشراً ، حتى بلغ عشرة ، ومثلها حتى بلغ السبعين.[الكافي 2 : 195].
ويظهر من أحاديث أهل البيت عليهم السلام – الكثيرة – أن الترابط الاجتماعي من أروع أنواع عبادة الله، بل ويضاهي العبادات الأخرى، ويفوقها ثواباً.
ومن أجل أن يتأصّل مبدأ الترابط في وجدان وواقع الناس اتّبع الإسلام منهج الترغيب والترهيب لأجل دفع أفراد المجتمع نحو الاتحاد والتعاون والتكافل.
فمن جهة الترغيب نجد أحاديث أهل البيت عليهم السلام تُسهب في إيراد الشواهد على الثواب الجزيل الذي ينتظر كلّ من قضى حوائج إخوانه وتبشّره بالأمن يوم الحساب.
وفي مقابل ذلك نجد التحذير الكثير لكل من يقصر في حق إخوانه ، ولهذا التحذير والإنذار آثار عملية تتمثّل في المحافظة على الجدار الاجتماعي من أي تصدّع ، وفي الحدّ من التحولات الاجتماعية التي تخل بقواعد العيش المشترك، وكشاهد على النمط الأخير ـ أي التحذير ـ يقول الإمام الباقر عليه السلام: من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته، ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر.[أصول الكافي 2 : 366 ].
وفي الوقت الذي تحث تعاليم أهل البيت عليهم السلام على الترابط والتكافل المادي، نجد أنهم يركزون كذلك على الترابط والتكافل الأدبي مع الفقراء والمساكين، من خلال اضفاء صبغة حقوقية لتكون ألزم، وصياغة عقد اجتماعي ضمني يرتكز على قاعدة اجتماعية عريضة تقوم على مبدأ الأخوّة، فبدون ترسيخ هذا المبدأ وإشاعته يغدو البناء الاجتماعي واهناً كالبناء على كثيب من الرَّمل.
ومن أجل ذلك عمل أهل البيت عليهم السلام بدأب على تهيئة الأجواء لترسيخ مبدأ الآخاء لكونه يسهم بصورة ضمنية في مبدأ الترابط والتكافل الاجتماعي، ونتيجة لذلك أشاعوا بين شيعتهم هذا المبدأ بحيث أصبح المائز أو العلامة التي تُميز شيعتهم عن غيرهم، فهو ـ إذن ـ أحد مقاييس الاختبار التي تميز أخيار الشيعة عن الآخرين، يقول الإمام الباقر عليه السلام: ما شيعتنا إلاَّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، والغارمين، والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس إلاَّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم والأشياء.[تحف العقول: 295].
وورد عنه عليه السلام انه قال: بلّغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم، وبأن يعود غنيّهم على فقيرهم، ويعود صحيحهم عليلهم، ويحضر حيّهم جنازة ميتهم، ويتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً حياةُ لأمرنا، رحم الله امرءاً أحيا أمرنا وعمل بأحسنه، وقل لهم: إنّا لن نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل صالح، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد، وإن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة لمن وصف عملاً ثم خالفه إلى غيره).[عيون الأخبار وفنون الآثار: 223].
لقد أراد أهل البيت عليهم السلام من شيعتهم أن يرتقوا إلى مستوى إيماني رفيع، يقرن العبادة والمحافظة عليها بالمعاملة الحسنة، من أجل بناء محيط اجتماعي سليم، وبذلك يظهر بأن الإيمان الكامل لا يتحقق على نحو مثالي إلا بالترابط، فكلما تكاتف الفرد المسلم مع إخوانه وتعاون معهم، كلما ارتقى إلى مدارج إيمانية عالية.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال: إنما شيعة علي عليه السلام المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، والمتزاورون لإحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يُسرفوا، بركةٌ على من جاورهم، وسلم لمن خالطوا.
وقال عليه السلام: ليُعِن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه.[أمالي الطوسي: 232] .
لقد سبق أهل عليهم السلام علماء الاجتماع في الدعوة إلى تقوية الأواصر الاجتماعية لدى الناس، وقد ثبت أن ذلك يؤدي إلى ارتقاء الإنسان ، لذلك حثوا شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من الاندماج والتعاون، روي عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال لاحد أصحابه: أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟، فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر عليه السلام: فلا شيء إذن، قلت: فالهلاك إذن! ، قال: إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد.[أصول الكافي 2 : 173].
فالإمام عليه السلام كأنه يقول له بأنكم لن ترتقوا إلى المستوى الاجتماعي المطلوب الذي تغيب فيه الأنا، وتسود فيه الرّوح الجماعية التعاونية، إلا بإزالة الحواجز السميكة التي تحول دون ذلك كالأنانية والأثرة.
ثانياً: قيم التراحم: وهذه القيم تسهم إسهاماً كبيراً في دفع الناس نحو الترابط الاجتماعي بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، وهي قيم تسير في خط متوازٍ مع مبدأ الإخوة وباقي المبادئ والقيم الأخرى التي توقظ في نفوس الناس العاطفة نحو بعضهم البعض، وتحقيق أعلى درجة من المشاركة والتعاون فيما بينهم.
وفي هذا السياق يقول الإمام عليه السلام: إنّي لأرحم ثلاثة، وحقّ لهم أن يرحموا: عزيزٌ أصابته مذلّة، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة.[من لا يحضره الفقيه 4 : 394 ].
فهذا الحديث يفتح لنا أفقاً واسعاً حتى لا تضيق عدسة الرؤية لدينا فننظر فقط إلى الترابط والتكافل في شكله المادي البحت، بل علينا أن نولي عناية بالجانب المعنوي من الترابط والتكافل.
ثالثاً: التعاون والإحسان: ففي الإسلام رصيد معرفي ضخم يدعو إلى قيم التعاون والإحسان في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد، الأمر الذي يرسي أساس الترابط والتكافل ويعمّق من مساره، فالقرآن وهو المصدر المعرفي الأساسي يحثّ في آيات عديدة على التعاون، يقول سبحانه وتعالى{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: 2].
إن الإنسان خلق وحده ضعيفاً لا يقدر على شيء إلاّ إذا توفرت له ظروف التعاون مع غيره، والضعيف إذا ساند الضعيف قوى، فالحياة الاجتماعية ما هي إلا تعاون أفراد المجتمع في سبيل توفير الطمأنينة النفسية لأفراده الذين يقعون تحت تأثير العجز عن تهيئة الامكانيات التي تعيد الطمأنينة النفسية إليهم، من هنا تظل الحاجة إلى التعاون ماسة عبر الزمن.
روى إسحاق بن عمّار أنّه سمع الإمام الصادق عليه السلام يقول: يأتي على الناس زمان من سأل الناس عاش، ومن سكت مات، قلت: فما أصنع إنّ أدركت ذلك الزمان؟ قال: تعينهم بما عندك، فإن لم تجد فبجاهك.[الكافي 4 : 46 / 1].
فالدعوة إلى التعاون ـ إذن ـ لازمة مهما تغير الزمان ، وتعاقبت الأجيال، وتغيرت العادات والتقاليد واختلفت الظروف.
أما الإحسان فهو قيمة عليا تؤدي إلى تنمية روح التكافل، وتطلق الفرد من عقال الأنا أو (الذات) إلى مدارات إجتماعية رحبة، وتجعله متضامناً مع إخوته وأبناء جنسه.
لذا ينظر أهل البيت عليهم السلام إلىٰ قضية الإحسان من منظار أعمق وأرحب، فهم يرون أنّ فضل المحتاجين عند الإحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم، فعن حسين بن نعيم الصحّاف قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: أتحبّ إخوانك يا حسين؟ قلت: نعم، قال: تنفع فقراءهم؟ قلت: نعم، قال: أما إنه يحقّ عليك أن تحبّ من يحبّ الله، أما والله لا تنفع منهم أحدا حتى تحبه. أتدعوهم إلى منزلك؟ قلت: نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلّ والأكثر، فقال أبو عبدالله: أما إنّ فضلهم عليك
أعظم من فضلك عليهم، فقلت: أطعمهم طعامي، وأوطئهم رحلي، ويكون فضلهم عليّ أعظم؟!، قال: نعم، إنّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك.[اُصول الكافي 2 : 201 ـ 202].
رابعاً: المسؤولية العامة: يسعى الإسلام إلى تنمية مبدأ المسؤولية في البيئة الاجتماعية، فبدون هذا المبدأ يغدو كل جهد إصلاحي من قبيل الحرث في البحر، وعليه نجد الرسول وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام يعملون على تأصيل فكرة المسؤولية العامة في فكر الأمة لكي ترتقي من خلالها إلى مستوى الترابط والتكافل الاجتماعي، في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد، ففي الاتجاه السياسي يضطلع الحاكم بأيّ شكل جاء إلى السلطة بمستوى عالٍ من المسؤولية، لكونه يتحكم في مصائر البشر، ومستأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وعلى الصعيد الأسري فالرجل مسؤول عن أهل بيته، من حيث الرّعاية والإعالة، فالمسؤولية ـ اذن ـ شمولية من أعلى السلّم الاجتماعي إلى قاعدته.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:… اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم.[شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 288].
خامساً: الإيثار: وهو قيمة أخلاقية عالية تدفع الفرد إلى تفضيل وتقديم مصلحة ومنفعة غيره على نفسه ، وكل من يتصف بهذه الفضيلة تتقد روح الترابط والتكافل في داخله، فيسعى إلى تقديم المساعدة والعون أو الخدمة لغيره، ومن خلال الإيثار يكون الفرد مشدوداً برباط الودّ مع العباد يسعى لتلبية حوائجهم ويتصدق عليهم بأحب الأشياء إليه.
وقد مدح الله عزّ وجل صاحب هذه الفضيلة، فقال في كتابه{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].
وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع، ولكنه كان يؤثر على نفسه.[تفسير نور الثقلين 5 : 286].
لذا لابد أن نلتفت إلى مسالة مهمة، خصوصاً في هذا الزمان، وهي أن الإنسان المؤمن الذي يقصد في كلّ سنة الحج أو الزيارة أو العمرة، وهو مستعدّ لأن يصرف المال في الحجّ المستحب، أن ينظر بنظرة إيثار إلى مساعدة أقربائه أو جيرانه أو أصدقائه من فقراء المسلمين وأيتامهم، فالإمام عليه السلام يقول: ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعهم، وأكسو عريهم، وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحج حجّة وحجّة، حتى انتهى إلى عشر وعشر، ومثلها ومثلها، حتى انتهى إلى سبعين.
والمقصود بذلك، أن العمل الاجتماعي في مساعدة الأيتام والفقراء، هو أفضل من الحج المستحب، وباقي الأعمال المستحبة، لأنّ ذلك يعتبر نوعاً من التكافل الاجتماعي يتقرب فيه الإنسان إلى الله من خلال إعالته لعباد الله، لأنّ التقرب إلى الله لا يقتصر على أن يصلي الإنسان اللّيل والنهار.
هؤلاء هم أئمّتنا الذين يربطوننا بالله ويربطوننا ببعضنا البعض، ويريدون منّا أن نتواصل وأن نتعاون وأن نتكافل، وأن نتوحّد، وأن نشعر بمسؤوليّتنا عن الإسلام كلّه، وعن المسلمين كلهم، كلّ بحسب طاقته. ولذلك، فإن الذين ينشرون الفتنة بين المؤمنين وبين المسلمين، هؤلاء ليسوا من أهل البيت عليهم السلام، وكذلك أولئك الذين ينحرفون بولاية أهل البيت عليهم السلام إلى حالة الغلّو.
ولذلك من الأمور المهمة في مسيرة الإنسان في هذه الحياة أن يدرس سيرة أهل البيت عليهم السلام، ليجد أن أهل البيت هم الذين يربطون بين الدنيا والآخرة، وهم الذين يريدون لنا أن نتقرب إلى الله من خلال القيام بمسؤوليتنا عن الإنسان كلّه وعن الحياة كلّها، أن ننفتح على المحبة ولا ننفتح على الحقد والبغضاء. تلك هي رسالة الإسلام، وأهل البيت عليهم السلام هم أئمة الإسلام الأصيل الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى من أقرب طريق.