سلسلة كلمات السيد علي الناصر السلمان في الحج ٢
بشائر: الدمام
سلسلة تنشرها صحيفة بشائر الإلكترونية لكلمات العلامة السيد علي الناصر السلمان
الحج هجرة في العقل والروح والأخلاق
الحج يحقق هجرة في جانب الفكر والروح والأخلاق بشرط إرادة الإنسان ذلك وعنايته بحجه.
هجرة من الحياة التي كان يعيشها، وربما كان بعيدا عن الفكر الذي كان يسيره إلى الدنيا ويبعده عن ال له تعالی، ومن السلوك الذي
يلصقه بالأرض ويمنعه عن الرقي والصعود إلى عالم علوي، هجرة كاملة من البعد عن الله تعالى إلى القرب منه عز وجل يتم فيها بناء شخصية الإنسان بناء جيدا وتجديد العهد فيها مع الله تعالی ولكن هذه الهجرة لا تحصل إلا بإرادة الإنسان.
وقد جعل الله تعالى للإنسان الاختيار في الجانب التشريعي، أي إن مؤثرات الجانب التشريعي تتدخل فيها إرادة الإنسان، أما الجانب التكويني
فلا تتدخل فيها إرادة الإنسان، فإن السم مثلا يؤثر والنار تؤثر في الإنسان ولو لم يريد ذلك.
فالحج بما أنه تشريع وعبادة تتدخل في تأثيره إرادة الإنسان فهو يتوقف على النية، والنية تحتاج إلى مقدمات، فالحج بركة وكله فيض وعطاء، ولكن لا بد من الممارسة والتعود لكي تحصل الفائدة منه وليس الحاجة إلى الممارسة
في الإيمان فقط بل في مختلف الأمور التي يريد الإنسان حصولها والنجاح فيها، فمن أراد أن يكون طبيبا يحتاج إلى تفاعل وممارسة لتوفر لديه ملكة
الطبابة ليستطيع تشخيص الأمراض بشكل جيّد وإعطاء الوصفات الطبية بل لا يكون طبيبا إلا أن تتركز عنده هذه الملكة، والفقيه لا يكون فقيها إلا بعد أنت توفر لديه الملكة الناتجة عن ممارسة وتفاعل مع الفقه والأحكام الشرعية، وهكذا الخطيب.
الإيمان درجات، وليس الأمر أن يعلم الإنسان بواقع الشيء لتحصل له ملكة الإيمان بل يعلم بذلك الشيء، سواء كان واقعيا أو غير واقعي، ثم من خلال ممارسة العمل تكون له ملكة، الإنسان يعلم أن لهذا الكون خالقًا هو الله تعالى، لكنه لا ينقاد إليه بالعبادة والطاعة ولا يكون له علاقة إيمان بالله تعالى، ومن خلال المارسة العملية يتولد الإيمان وينشط.
الحج من خلال ما يرتبط به من زمان ومكان ومناسك يؤثر أثره في هجرة الإنسان بالمارسة والعناية والالتزام بآدابه.
هناك أمور ليست من الحج لكنها تؤثر فيه وفي بعض جهاته، من ذلك: مكة، فإن لها قداسة، وهناك آداب تتمشي معها ذكرها الفقهاء، وهذه
الآداب إذا تأملنا فيها نجد أنها تساعد على حصول الإيمان ورسوخه وتساعد على نيل فوائد الحج، نذكر جملة منها:
ذكر ال له تعالى، الذكر اللساني والذكر القلبي بما يناسب الله تعالى من الأذكار والإكثار منه مما يحقق الهدف من الحج ونيل فوائده، والذكر اللساني يولد ويؤكد الذكر القلبي.
ينبغي للإنسان التعود على أن يملأ الأيام التي يجاور فيها البيت الحرام بذكر الله تعالى، فيذكره تعالى ويذكر ألطافه ومننه وقدرته التي ترى حول
كل ظاهرة من ظواهر الكون، ويذكر ما منحه من صحة وعافية وعطاء وهداية إلى الدين الحق.
والإكثار من الذكر مهم في حصول الفائدة، فإنه عندما يركز الإنسان على ذكر الله سوف لا يشتغل قلبه وعقله بغيره تعالى، فلو كان في بلده
يمارس التجارة وتأخذ فکره وعقله يكون الإكثار من ذكر ال له تعالى مطهرا لقلبه، فإن لم تكن تشغل التجارة قلبه عن ذكر الله تعالى في بلده، وهذا أمر حسن، فإن الإنسان يستطيع توظيف المباحات وتحويلها إلى عبادة ، وذلك
عندما تكون فيها رضا لله تعالى فينوي هذا الجانب منها، فمن يكسب رزقه يستطيع مثلا قصد وجه الله تعالى؛ لأنه يحب للإنسان ذلك ويستطيع
الالتفات إلى أن التجارة والتوفيق إليها من نعم الله تعالى عليه فيشكره تعالى عليه، مثل هذا الإنسان الذاكر ل له تعالى في بلده هو على أي حال هنا في البلد الحرام يكون ذكره متميا بمقارنته لهذه البقعة المباركة، ومتميزا بخلوه من الاشتغال بالتجارة الأقل محبوبية إلى الله تعالى مثلاً.
هنا، في مكة، يتعود العقل على التأمل في أصل العالم، وفي الآخرة والجنة والنعيم، هذا مثال على تطور العقل، والكلام هنا يطول.
التطور الروحي يحصل هنا بسبب الارتباط القلبي بال له تعالي الذي يغير سلوك الإنسان، فإذا كان يتعجّل الصلاة حينئذ يهتم بها ويتأنی مثلا،
وكذلك يعتني بعلاقته مع الناس فيسعى لأن تكون بالشكل الذي يرتضيه الله تعالى، فلا يتجاوز ما يریده الله تعالى ويكون ذلك تطهيرا للروح عما يبعده عن الله تعالى، وإذا ريخ هذا الأمر في نفسه يستقيم كل سلوکه فتكون علاقته مع زوجته وجيرانه موافقة لحدود الله تعالى.
الإكثار من تلاوة القرآن: وهذا مما ينبغي في هذه الرحلة وهذه البقعة المباركة كأن يختم القرآن في يومين أو ثلاثة أو على الأقل خلال وجوده هنا.
الشرب من ماء زمزم: وهو مما يستحب، وهذا يذكره في واقع بئر زمزم الذي مثل البركة التي أوجدت الإيمان واستوطنته في هذه البقعة وجاء
الأنبياء والرسل هنا، لقد كان أبونا إسماعيل يواجه العطش وأمه تبحث عن الماء تسعي بين الصفا والمروة فوجدت أن الماء قد انبعث تحت قدمي
إسماعيل، هذا النبع كان عطاؤه آلاف السنين لم يجف، فهو بركة ونعمة على الإنسان وعلى توحيده، فعندما يشرب الحاج من هذا الماء يتذكر هذه المعاني فتصغر الدنيا في عينيه، ويكون ارتباطه بالله تعالى ويستحب الشرب
والدعاء بالمأثور الذي يتضمن أن يجعل الله تعالى الماء سبا ل لعلم والصحة وتوفير الخير والبركة، وهذا ينقله إلى عالم علوي لا يرى فيه إلا ال له تعالى.
الطواف بالبيت: مما يستحب كما في بعض الروايات أن يطوف ثلاث مئة وستين طوافا، وليس شوطًا، كل طواف بسبعة أشواط، بعدد أيام السنة
فإن لم يتيسر فعلى الأقل يطوف اثنين وخمسين طوافا، فإن لم يتيسر فما تيسر فيستحب أن يطوف عشرة طوافات في اليوم، ثلاثة في أول الليل، وثلاثة في آخره، واثنان بعد صلاة الفجر، واثنان بعد صلاة الظهر.
الإكثار من النظر إلى الكعبة: من المستحبّات، وقد ورد ما مضمونه أن له تعالى مئة وعشرین رحمة، ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرین
للناظرين. إن إكثار النظر يفتح عوالم النبوات ويذهب بالإنسان إلى عمق التأريخ، فيذكر أباه إبراهيم وبناءه للبيت الحرام مع إسماعيل، ويذكره بهاجر، أولئك الذي أخلصوا ارتباطهم بال له تعالى، فقد تحملوا المشاق وصغرت الدنيا في
أعينهم، ويتذكر الرسل الذين طافوا بالبيت والنبي الأكرم وفاطمة الزهراء والأئمة عليهم السلام جميعًا، كل ذلك يساعد على الهجرة العقلية والهجرة الروحية، وكلما توفر ذلك حصلت الهجرة الأخلاقية.
فعلينا الاهتمام بكل ذلك وعدم تضييع الأوقات.
من من كلام للسيد علي الناصر السلمان في مكة المكرمة. المصدر: كتاب مشاهدات من الحج عام ١٤٢٨ هـ لنجله السيد هاشم السلمان (ص ٤٥ – ٤٩).