المسحة الأدبية في كتاب (على عتبات العمر)
جاسم عساكر
المسحة الأدبية في كتاب (على عتبات العمر) لمؤلفه خالد بن إبراهيم الجريوي.
هناك من العتبات ما تعبـره شقياً مجهداً، وأنت في كامل الثقل لا تكاد تحمل جسمك وكأنك تعبر وحلاً، مشدوداً إلى ما في قاعه من الطين الذي يثقل خطوك. وهناك منها ما تعبـره رشيقاً وأنت في كامل الخفة والأناقة، كأنك تعبـر حقلاً من الورد، مستمتعاً بالمنظر الخلاب منتشياً بالعطر والأطياب.
هنا في كتاب (على عتبات العمر) لخالد بن بن إبراهيم الجريوي، الصادر عن دار مدارك عام 2021م، تجدك تتوقف أمام كل عتبة قبل أن تعبرها، وكأنك تتملاها وتسأل: إلى أين ستصعد بي؟ وأين سوف يكون مصيري؟ كمن يصعد سلم المقامات درجة درجة حتى بلوغ النشوة في آخر الكأس، كأس الغناء.
لك هنا أن تسأل: ما هي مواد البناء التي استخدمها الكاتب في تشييد عتباته، وإلى أين يريد أن ينتقل بك من خلالها، لتتجول معه في متحف عمره الذي لم يشأ له أن يمر هكذا دون أن يصطاد كل لحظة في دقائقه وثوانيه ويوثقها في إطار مصور يعلقه على جدران هذا الزمن، ربما يشعل روح من جاء بعده بزيت الحماسة في موقف ما، وربما يسعد قلباً أشقاه نبضه في ردهات العمر بموقف آخر، وربما يشد أزر نفس توشك على الانهيار، وهكذا كل عتبة تنتقل بك إلى ركن من أركان نفسه التي عايشت تلك المواقف.
ما يجدر الالتفات إليه في هذا الكتاب الذي خط مقدمته الفارهة، الناقد الكبير الدكتور/ سعيد السريحي، ببصيرة الناقد الحصيفة، إيماناً منه بأهمية رسم خارطة جغرافية أمام القارئ لتفاصيل ما يكمن خلف تلك العتبات، تسهل أمامك مهمة التنقل من عتبة إلى أخرى بكل سلاسة ويسر، أقول ما يجدر الالتفات إليه علاوة على ما ورد من مواقف حياتية تدعو إلى التسلح بالنور في مواجهة الظلمة، والانحياز نحو القيمة الإنسانية الفضلى ضد الإسفاف، هو الخيط الشفيف الذي يشدك به الكاتب إلى مصيدة الأدب اللذيذ في صياغة الفكرة، حيث أنه يقدم أفكاره بصياغة أدبية شاعرية غاية في السمو الأدبي تأسر روحك، دون تكلّف في البوح أو تقعير في اللغة كحالة استعراضية، كل ذلك لأنه يصب عتباته بنبضه الإنساني المفعم ولا يستخدم قوالب خرسانية جاهزة.
وهذا ما يلوح جلياً ابتداء بالفهرس الذي يتصدر الكتاب وكأنك تقف أمام لوحات تشكيلية من هذا العمر يشي بعضها بالأمل مثل (بانتظار الأجمل)، وبعضها الآخر بالتحفيز مثل (قيمتك أنت بداخلك فقط) والكثير الكثير مما لا يسع المجال لاستعراضه، لأنه ليس غرضي من هذا العرض المبسط فيما وجدته بهذا الكتاب القيّم جداً، لأنه يعكس تجربة مجردة من رتوش المثالية المفرطة كونه يتحدث عن انتصارات وانكسارات وطموح وكل ما بين دفّتي هذا العمر من متغيرات وظروف.
ما أود الإشارة إليه على عجل، هو الروح الأدبية الشاعرية والشفافة -كما أسلفت- وكلما شئت أن أصل للاستشهاد وجدتني مشدوداً إلى جنبة أخرى تستدرجني إليها فأنجذب، وتلك حيلتي في ألا أفوّت فرصة استمتاعي بالوقوف على كل عتبة.
في الإهداء (ص11) يقول الكاتب: (عادة ما تكون إهداءات الكتب مثل حبة الكرز على الكعك، قبلة امتنان صغيرة يطبعها الكاتب على جبين من أضاء له الطريق يوماً) ونلمس هنا التصوير الأدبي السامي، ومنسوب الشاعرية المرتفع، في فلسفة الإهداء.
ويقول في عتبة (رجل السماء) التي خصها للحديث عن والده بتعبيره (هنا أتكلم عن سيدي والدي وتاج رأسي وعزوتي وسندي بعد الله عز وجل)، يقول (مرت الحياة مثل غيمة تسبح وحيدة في كبد السماء، وما إن انقضت الظهيرة حتى بدأت الغيمة تتلاشى)ص26.
قف هنا على هذه الصورة التي أتت من الطبيعة الخلابة، لتجدك طائراً محلقاً في سمائها حتى لتكاد تلمس الغيمة بيدك وأنت تطاردها خلف هذا الوصف.
ويظل الابن مسكوناً بالأب الذي يحيل منه أيقونة كونية له غير الغيم، حيث يخاطبه في نفس العتبة ص27 بقوله (آه يا أبي لو تعرف كم لوقع اسمي على لسانك من لذة وأنت تناديني.. أشعر أن السماء تدنو مني.. يحدثني القمر، والنجوم توشوشني، والغيوم تراقب المشهد، والكون كله يترقبني) أي وحدة عضوية هنا وانسجام بين مكونات هذا المشهد من جهة وبين حالة الابن التائق دائماً إلى حضن أبيه الذي مايزال حنانه رقراقاً كينبوع دافئ، وهذا ما عبر عنه كاتبنا بقوله (أبي على الرغم من كل هذا النسيان مازال يحفظني ويسأل عني)ص27.
في ص33 لو انتقلنا إلى عتبة أخرى من عتبات هذا العمر وهي الأم، يكفيني هذا الاقتباس الفاخر (يُخذل قلبي، فترممه أمي بابتسامة) كيف لابتسامة أن ترمم عمراً من الخذلان! إنها الأم يا سادة.
وحين ينتقل الكاتب من الأب مروراً بالأم يجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذاته متسائلاً عن الإنسان في ص41 وكيف يكبر، حيث يقول (كلما مني مُنيَ بخيبة، أشرقت شعرةٌ بيضاءُ في رأسه لتعيش نهارها الأبدي كالسراب) وهنا لم يقل كلما مرت سنة كبر الإنسان، وإنما يكبر المرء بالخيبات، ويا لها من مفارقة عجيبة، كيف يصبح الشاب كهلا وهو لم يتجاوز العشرين، تباً للخيبات.
بعد هذا ينتقل إلى عتبة لا تقل أهمية عن سابقاتها وهي (الذاكرة) التي ربما تعصف بها رياح العمر، ولا يؤثثها سوى الحنين والذكريات التي تروّض وحشية هذا الوقت المتنمر، يقول في عتبة (تضاريس الذاكرة) ص53 (أسعدنا حظاً من سعى جاهداً إلى تأثيث ذاكرته بصور الأحبة، وضحكات الخلان، وتلك الوجوه المبتسمة، وأيادي الأطفال، وهي تعبث بدهاليز الحياة في ملامحنا) فإضافة إلى رؤية الكاتب الحاذقة إلى الحياة، إلا أنه لم يقدم الجاه والمنصب مثلاً من مقومات الحظ السعيد، ولا المال ولا السفر، وإنما التفت إلى تفاصيل طفولية أكثر دقة وفي مجملها مرتبطة بالمعنى لا بالمادة “صور الأحبة، ضحكات الخلان، أيادي الأطفال” وما هو أرق وأحن من كل ذلك في هذا الزمن المصاب بنوبات الجفاف العاطفي!
ومن عتبة (تضاريس الذاكرة) إلى عتبة (إرشيف الذاكرة) حكاية انتقال سلسلة، تدل على أن حنين الكاتب الأبدي إلى الطفولة المصفاة من الشوائب، إلا أنه لا ينسى ما تركته الحياة من نتوءات جارحة على أطراف القلب، فيصور بعض المواقف في حياته بأسلوب أدبي بقوله في ص67 (ثمة مواقف لا يمكنك تجاوزها، بل تعيش معك إلى بقية العمر، تحملها معك مثل الندوب التي تملأ جسد جندي أنهكته الحروب والمعارك) أي دهشة سوف تصيبك هنا من تحويل المعنوي ممثلاً في (المواقف) إلى مادي ممثلاً في (ندوب الجندي) وهذا ما لا تستوعبه الفيزياء بكافة قوانينها أبداً، وإنما يصنعه الأدب الذي يدهشك حتى الثمل.
وأما في عتبة (فن التغافل) فلا تغيب الحكمة الموشاة بالأدب، ماذا يخفق الآن في قلبك حينما تقرأ في ص81(عليك أن تدرك أن بعض الناس يجب أن يبقوا في “قلبك” ولكن ليس في “حياتك”! ما هو شعورك بالصدمة حيال إبقاء ناس في المعنى وترحيل آخرين من الواقع!
ومن حكمة إلى أختها في عتبة (مرارة الفقد) والفقد أكثر الأغراض صدقاً حال التعبير، ولكن أي فقد، يقول في ص91 (ليس بالموت وحده يُفقد الأحبة، نفقدهم أحياناً بالتغير، وأحياناً بالنسيان، وفي أحيان كثيرة نفقدهم بالجحود والنكران) هل لمستم الوجع بأيديكم؟.
وهو لا تغيب عنه حكمة القول الطيب، كذلك ويدرك بإحساس عميق ماذا تعنيه الكلمة التي عبر عنها في إحدى العتبات بـ(نزف الكلمات) إذن الكلمات هي بمثابة الدم من الجسد أو الحبر السائل في القلم، فيصبغ عليها فلسفة عميقة بقوله في ص105 (للكلمات الطيبة أيادٍ طويلة، تصل بها إلى القلوب مباشرة، ولها قدرة على أن تربّت على الروح بهدوء، وبإمكان الكلمة السيئة أن تعبث بها، وتفعل بها كل أفاعيل السوء)، مجرد (للكلمات الطيبة أياد طويلة) تشعر بكل احتواء العالم، وكيف سيكون ذلك لولا القدرة التصويرية والتعبيرية الأدبية الصافية!
وإيماناً منه بدور الكلمة فقد شيد لها عتبة أخرى بعنوان (قوة الكلمة) وأسبغ عليها بعداً فكرياً عميقا بقوله ص189 (لم يجد الإنسان قوة أكبر من قوة الكلمة، وهل أشعل الحروب وأخمدها غير بضع كلمات على ضفافها عتاد حربي ضخم، لا حرب إلا بأسلحة مدمرة وعتاد كثيف، غير أن حروباً قد تبتدئ وتنتهي بكلمة).
ولا يزال يترقى على سلالم من نور ليتحدث عن (أكمل الخصال) وهي العتبة التي يشيدها إكراماً لوجه العفة، العفة التي يراها أنبل الخصال وأكملها فيصفها بقوله في ص227 (تدهشني العفة، إنها تاج يتوج به المرء إذا وصل إلى مرتبة عالية من المحامد، لا يمكن أن تذل الدنيا عفيفاً، أو أن يتنكر الدهر لمعف) وهنا تتحد الرؤية بالوصف اللغوي لتصنع المعادلة الجميلة في رفع روح الإنسان إلى أعلى مستوى من درجات الكمال.
ولا ينسى عتبة مهمة يختتم بها عتباته التي لا تفضي بك إلا إلى نور، وهي عتبة (في داخلك أرخميدس) وذلك في ملاحقة الفكرة عبر الكتابة واصطياد المعنى عبر البوح، فيتحدث عن الكتابة كمفهوم يخصه بصفته كاتباً متعدد الأغراض له انطباعه حولها، حيث يقول في ص302 (بعضنا يستدرج أفكاره للكتابة في الصباحات الباكرة، بعد أن يحتسي قهوته المفضلة، شرع في الكتابة كما لو أنه صياد خرج يبحث عن صيده، وبعضنا الآخر يتحين الأفكار والكتابة تحت الماء، عندما تتساقط عليه قطرات الماء تباعاً، تتبلل الأفكار بداخله ثم تنهمر، يغرق في سيل عظيم ثم يصرخ فجأة كأرخميدس (وجتها وجدتها).
هنا تكمن القدرة لدى الكاتب في تحويل الفكرة كمعنى إلى جسم ملموس، وإلا كيف بربك أن ترى الأفكار مبلولة بالماء؟؟
استمتعت بقراءة هذا الكتاب الذي أضاف لي الكثير الكثير، ولم أستشهد منه في هذا العرض سوى القليل القليل.