ما بعد الحداثة: إعادة إحياءٍ لسقراط أم نصرٌ للسفسطة
القاسم محمد
لعلّه في بعض الأحيان تكون الأحداث الكبرى في مسار التاريخ لا بُدّ منها بل ضروريّةً للتطوّر الإنسانيّ؛ فعندما ننظر لحدثٍ ما -من وجهة نظرٍ إنسانيّةٍ بحتة – على أنّه كارثيّ؛ قد يكون هذا الحدث في الوقت نفسه أساسيًّا للتطوّر التاريخيّ، فالتاريخ كما يقول هيغل له روح، والأحداث تبعًا لذلك لا تكون عبثيّة؛ إذ لا تتصادم الفلسفات المختلفة في عصرٍ ما إلا بتأثير روح التاريخ -Zeitgeist- على أبناء ذلك العصر حتّى تظهر لنا الفرضيّة الجديدة التي تتجاوز -ويجب عليها ذلك- معوّقات نجاح الفرضيّات السابقة وتتقدّم عنها خطوةً إلى الأمام لتصبح بذلك روح العصر القادم التي يخضع لها من يعيش فيه وهكذا دواليك …
لا أريد من هذه المقدّمة سوى التحضير لما سأدلي به عن أحد الأحداث في القرن العشرين وربّما واحدٍ من أهمّ الأحداث منذ أن عرف بنو الإنسان الحياة الاجتماعيّة التعاونيّة بصورتها الحالية: ألا وهو الحرب العالميّة الثانية. لقد كانت هذه الحرب حقًّا نقطةً فاصلةً في تاريخ البشريّة، وهذا يبدو من تأثيرها على نتاج الفلسفة والعلم ما بعدها، وفي هذا الصدد يقول أحد روّاد مدرسة فرانكفورت النقديّة ثيودور أدورنو في كتابه “جدليّة التنوير والجدليّة السلبية” أنّ الحضارة والبربريّة يسيران معًا بنفس السرعة والاتّجاه.
لكن ماذا يعني ذلك؟
لنعد قليلًا بالزمن إلى بدايات النهضة الأوروبيّة وما تلاها من الثورة الصناعيّة التي لم تكن لتحصل لولا التغيّر الأكبر الذي حصل في التأريخ الأوروبيّ، وهو الانتقال نحو العقل المطلق في تفسير الأمور والتخلّص من الخرافات الدينيّة كمحركٍ أساسيٍّ للحياة؛ التي تتدخل بالضرورة في شتّى مفاصلها وتضع قيودًا تحدّد معها سلوكيات الإنسان المختلفة. الآن -وبعيدًا عن أسباب ذلك التحوّل- أصبح لا شيء يسمو على العقل ولا حجّة تسمو على حجّته. لم يكن هذا التحوّل ليمر بدون تأثيراتٍ واسعةٍ لا حصر لها؛ إذ أسّس -كما قلنا- لبدايات عصر الحداثة الذي أصبحت معالمه واضحةً على ما يبدو لي، لقد آمن فلاسفة هذا العصر بالبرهان العقليّ وحده والعلوم الطبيعيّة -التي كانت تقفز قفزاتٍ كبيرةٍ في ذلك العصر- كمحرّكٍ أساسيٍّ للكون، وآمنوا ببنياتٍ محدّدةٍ للمجتمعات (لذلك يسمّى عصر الحداثة في بعض الأحيان بعصر البنيويّة). وبالتأكيد لم يكن هذا الأمر ليمرّ بدون وجود فلسفات مضادّةٍ من هنا وهناك، وربّما كانت أشهرها فلسفة المطرقة -كما أُحبّ تسميتها – لـفريدريك نيتشة، وينبغي أن أشير هُنا إلى نقطةٍ مهمّةٍ وهي أنّه ينبغي علينا أن نحترس من أيّ فهمٍ “أخلاقويّ” لكتابات نيتشة، مثلًا أن نعتبره معارضًا يائسًا للأنوار الحديثة أو داعيًا خطيرًا إلى البربريّة أو عدوًّا للساميّة أو قوميًّا متعصّبًا أو جماعويًّا حزينًا ضدّ المكاسب الحقوقيّة للدولة الليبرالية؛ تلك أفكارٌ مسبقةٌ أخرى، أو ضروبٌ مريضة من الفضول. – إنّه فقط يمارس “أنوارًا جديدة” يدفع بها بعيدًا عن أيّ أنوارٍ سابقة، إنّ قراءة نيتشة يجب أن تساعدك على تخطيّ نيتشة نفسه، وإلا فيجب عليك محاولة إعادة قراءة أفكاره بتأنٍّ أكثر.
لكي لا أبتعد كثيرًا عن سياق الموضوع الذي حددّت نفسي به أعود إلى حيث توقفت: لقد كانت فلسفة نيتشة نقدًا شاملًا لما قبلها؛ إذ لم يكتفي بنقد اللّاهوت المسيحيّ كما فعل من قبله من الفلاسفة، وإنّما نقل هذا النقد إلى الأخلاقيّات المسيحيّة التي وصفها بالوضاعة والانحطاط، كما أنتقد فلسفة عصره التي أزاحت الغايات المسيحيّة للعالم لتترك الآنسان بلا معنًى يعيش من أجله.
أما بخصوص الضربة القاضية للحداثة فقد وجهتها بربريّة الإنسان وهمجيته تجاه بني جنسه؛ فذلك الفرد الضعيف البنية مقارنةً ببقيّة أفراد المملكة الحيوانية الذي لم يكن في يوم من الأيام يفعل شيئًا سوى الصيد وجمع الثمار والعيش في جماعاتٍ صغيرة؛ لقد أصبح قادرًا على شطر الذرّة وإبادة البشريّة في غضون ثوانٍ معدودة، هنا نعود لما قاله أدورنو بخصوص الحضارة والبربريّة، ويبدو أن هذه المقولة (بناءً على ما سبق) تبدو صحيحةً بطريقةٍ لا تدع مجالًا للشكّ.
وفق كل هذا جاءت ما بعد الحداثة لتكون نقدًا راديكاليًّا لكلّ ما سبق؛ فظهرت حركات ما بعد البنيويّة كنقيضٍ للبنيوية والتفكيكيّة لـجاك دريدا ونقديّات ميشيل فوكو للسلطة والفيمنولوجيا التي أصبحت منهجًا ابستمولوجيًا حديثًا عارض كل من المثاليّة والتجريبيّة، فالمعرفة وفقًا له هي لحظة التقاء الوعي الإنسانيّ بالموضوعات الخارجيّة، كما يمكننا أن نرى في ما بعد الحداثة شيئًا من الرومانسيّة الحديثة، إضافةً لكونها آمنت بالنسبيّة الجذريّة وعقلانيّة التاريخ وهذا يبدو واضحًا في رؤية فوكو للجنون في العصر الكلاسيكي ّوما تبعه من معاملةٍ سيّئةٍ للمجانين وحجزهم في مصحّاتٍ عقليّةٍ لا تختلف عن السجون، كما انتقد النظرة الطبيّة للمريض على أنّه موضوعٌ مجرّدٌ ومعاملته على هذا الأساس بعيدًا عن النظر إليه ككائنٍ كاملٍ له ذاتٌ وينبغي علاجه من النواحي الاجتماعيّة والنفسيّة بدلًا من النظرة البيولوجيّة المجرّدة للإنسان، وبدت الحاجة ملحّةً لإعادة العمل بالنقد النيتشويّ للأنوار الأوروبية.
ولعلّ أحد أهمّ مميّزات هذا العصر هو التعدديّة الثقافيّة التي أصبحت -وبفضل الفلسفة- من البديهيّات التي نؤمن بها حاليًا؛ فظهرت حركات النسويّة والمطالبة بحقوق الأطفال والأقليّات العرقيّة لمحاولة منع الطرف الأقوى من فرض رأيه على الآخرين.
إنّنا نقف الآن في موضعٍ يحقّ لنا فيه النظر لكّل تلك الأحداث بموضوعيّة. لقد انتصرت ما بعد الحداثة للسفسطائيّة التي حاربها سقراط أشدّ محاربة، سقراط نبيُّ الفلاسفة الأوّل لم يسلم من نقد نيتشة كما انتصر برتراند راسل لأعدائه وبرّر في بضع أحيانٍ أقوالهم بالنسبيّة. في الحقيقة لقد ساهمت التعدديّة بقصدٍ أو بدون قصدٍ في شيوع الأفكار الهدّامة للبناء الانسانيّ الذي استغرق قرونًا عدّة، تلك الأفكار التي لم تكن عملية الانتخاب الطبيعيّ قطعًا لتسمح لها بأن تمرّ للأجيال القادمة أصبحت تكتسب درجةً من المقبوليّة لا يمكن الاستهانة بها حاليًا كما يروّج لها من خلال وسائل الإعلام كمحاولةٍ للتطبيع معها لتصبح فيما بعد سلوكًا بشريًّا سويًّا. إنّنا هنا لا ندعوا إلى الشموليّة بقدر ما ندعوا أن يتذكّر الإنسان أنّه وُجِد على الأرض ليبني حضارةً ويعمرها، كما ساهمت ما بعد الحداثة أيضًا في ضعف الدافع الفلسفيّ الذي كان متّقدًا في ما سبق، وأصبح فعل التفلسف يُشار به إلى الكلام الفارغ الذي لا يجدي نفعًا ولا يعوّل عليه، وأصبحت شخصيّات الأبطال السينمائيّة تصوّر العواطف الإنسانيّة والاندفاعات الغريزيّة لتبدو وكأنّها شيءٌ لابدّ منه في محاولةٍ لمحو التراث التاريخيّ وإعادة صياغته كما لو أن الأفكار الحالية قد سادت أيضًا في العصور القديمة ضاربةً عرض الحائط جدليّة التاريخ والاختلافات الواسعة في المناهج العلميّة والثقافيّة للعصور المختلفة؛ رُبّما جهلًا منها بالآثار السلبيةّ لتلك الأفعال.
لقد مَرّ ما يقارب القرن على هذه الأفكار، ويجب على البشريّة أن تحدّد موقفها إذا كانت تريد أن تقف مع السفسطائيّة وتقرّر إعدام سقراط من جديدٍ أم تقرّر إعادة إحياء الفلسفة.