دعني أتجول بداخلك
سهام البوشاجع
دعني أتجول في نفسك فيطيب خاطري بنسخ بعض من مساحاتك الجميلة، وأكررها علنا للناس فيقلدونها، وبها أفخر بأنها بعض ما تمتلك، وما يزال فيك الكثير يستحق أن يقتبس منه، وما يزال في داخلي طاقة للعبث داخلك واقتباس ما يمكن تقليده وتكراره.
هذه ليست وصلة شعرية أو خاطرة نثرية أو مقطوعة أدبية بقدر ما هي أمنية أي شخص إيجابي يحب الحياة ويتمنى لو أن الناس تسمح للآخرين بالتجول في مساحات ذواتهم واقتباس الجميل منها ونسخها مرارا وتكرارا؛ لتبقى متداولة عبر السنين والدهور والعصور.
فما أجمل ما نسخه وكرره العرب من عادات الإباء والشهامة والكرم حتى توارثت جيلا بعد جيل وأمة بعد أخرى، وما أجمل ما نسخه الناس من عادات مجتمعية اتسمت بها، وتجذرت بحضارتها حتى تبلورت وتعارفت بها حقب وعصور توالت واحدة بعد أخرى، وكله اقتباس ونسخ خير لا تقليد مضر أو أعمى، وأغلبه حمل بين طياته سعادة وعبقا من ذكرى جميلة، فما أن تدار موسيقى لأي فيلم كرتوني أيام الثمانينات من الزمن الغابر الجميل، كسالي وفلونا وهايدي وغرندايزر ومغامرات سندباد وغيرها حتى يبتهج الجميع، ويتناهى إلى ذاكرته أيام الطفولة واللعب والبراءة وأسطح البيوت، وزقاق الحواري وسيارات الكابرس وزهور الحدائق الوردية.
لو لم يكن للتقليد مساحة مباحة لما اتسمت تلك الحقب والعصور بسمات جماعية كررها أبناؤها بشكل كبير، حتى ليعتقد أنهم يلبسون نفس الملابس ويأكلون نفس الأكل ويسكنون نفس تفاصيل البيوت. وهكذا بالفعل عاشت كثير من الأمم بنفس الرتم ونفس النفس، حياة بسيطة ومريحة، على عكس ما نراه في أيامنا الحالية، وحالة الاقتباس الفوضوية من كل حدب وصوب، فلا أعلم هل زادت إباحية الاقتباس أكثر أم زادت مساحة العبث في الذوات بشكل أكبر!
أم هل أغلقت الأنفس فاضطر الآخرون إلى العشوائية في التقليد دون التفريق بين الجميل منها والقبيح، مما عكس مجتمعات مختلطة متنوعة تكاد لا يتشابه فيها اثنان ولا يتكرر منها عادتان.
وقد يؤمن البعض بهذا الانفتاح وهذا الاقتباس غير التقليدي في ذاته من باب الإبداع والتطور والخروج عن المألوف، مما يتمازج مع حضارة الألفية الجديدة، والرؤية المستقبلية، والواقعية الأيديولوجية، مشيرين بهذا التأمين على أن الحياة بنفس جديد أجمل وأكثر راحة من الحياة السابقة، وأن العيش بين طيات الماضي وسلوك التقليد بحذافيره يعد من المعوقات للتطور والعصرنة والحداثة، وفي هذا النفس لغة ذات حدين منها الخير كله لمن عرف دهاليزه وخباياه وآمن شره وأظهر خيره، ومنها الخوف من مغبة الانزلاق وراء الجديد، فليس كل جديد يلمع ولا كل مبتكر يصنع الفارق.
وبين ذاك وذيك، العبث المباح والمحرم، التقليد الجيد والمضر، المحاكاة الواقعية والخيالية، تصنع أمم وتقام حضارات وتشيد عادات، والحياة في رتمها ماضية، والناس ما زالت هي الناس أحيانا تسمح للغير بالتجول في داخلها وأحيانا تنغلق على نفسها حتى لا تتكرر.
لا أزكي الزمن القديم من العبثية في مساحات التقليد في أحيانا كثيرة، فقد سمعنا وبعضا رأى أنه لولا لطف الله لانزلقت بعض الحضارات في غياهب الظلمات، ولكن بفطنة رجالها وتطور العلوم، استفاقت قبل السقوط.
ولا أسقط العتب على عصورنا الحالية، فما زالت عبثتيها في تلك المساحات مستمرة وبعضها مثمر إلى الحد الذي بدئنا نجني ثمارها، فالتحول الرقمي والرؤية المجتمعية التقنية القادمة، ماهي إلا نتاج تقليد لفكرة أنتجتها عقول ما، فانتهج نهجها وطور من مبدأها حتى تفرعت واستطالت وبانت بوضوح وأكثر قوة وسيطرة وربما جمال من أصل فكرتها.