درويش
فاطمة محمد
كنت وحيدة، ولكن كانت الوحدة لجوءاً ، سكناً، لم تكن كما في أوضاع أخرى “شيئاً يسبب الحزن”
كنت وحيدة، وأنت كاتب يستطيع أن يصيرني أميرة في حروفه، كنت جاهلة ووحدك كنت العارف والعراف!
ما معنى أن يجهل المرء رغباته بدقة، أن يؤطر هذه الرغبات ويراها تناسبه تماماً، ويأتي من يحل هذه الرغبات من يخلقها، ويحيكها، ليجعلني لا أرغب إلا بما يبدر منه، أو يجعل كل ما يبدر منه مرغوباً!
منذ أن دخلت عالم الشعراء، كان محمود درويشاً لا يجذبني، أنفر مما يكتب، وأحسه يكتب بشكل عشوائي، ويصفق الجميع خلفه، كنت دائماً أشعر أن من يسمع له مميز فقط لأنه يفهم ما يكتب هذه المخبول..
صورة درويش هي البداية، وهي المنتصف، وهي ما بعد النهاية
إن كنت أنا هي فاطمة في رواية (كبرت ونسيت أن أنسى)، فأنت كنت درويش دائماً في كل قصائده.
هل تعتقد مثلي، أن تشابه اسمينا معهم ليس مجرد صدفة، وأن الأمر مرتب بعمق أكثر؟
يعتقد الإنسان بأنه عصم نفسه عن بعض الأمور التي يراها خاطئة، يصدق ذلك، ويفتخر بهذه النفس التي لا يهمها التيار الذاهب دائماً لوجهة واحدة يراها صحيحة لكثرتها!
كنت هكذا منذ أن عرفتني، ولكن، ربما درويش واحد، إطراء واحد، تحية واحدة، تبعثر الأمر وتجعلك غير عارف إذا ما كنت عرفت نفسك أم أنك لم تحل هذا المتناقض بعد ..
لو لم تحادثني كنت الفتاة التي أعرفني دوماً، شيء يذكر لم يتغير
لو كنت رساماً، عازفاً، فلاحاً، مهرجاً، حزيناً، جريئاً، وحيداً، كنت سأعزف عنك، كنت لم أكتب رد التحية عليك
ولكنك.. كنت كاتباً، يعني أنك كنت كل الصفات التي ذكرتها سابقاً وأكثر!
هذا يعني، أن أعجب بالكثير من حروفك، كان الإعجاب وحده أمراً بدائياً في حضرتك.
الإعجاب سمة الأبرياء
كان درويش ثابتاً في صفحتك، وكأنه يتحدى كرهي له، ويصر علي في هذا التحدي، كان مكتفاً يديه، واضعاً رجله على الأخرى، لم أشغل بالي به، لم أفطن بأنه هكذا، ومنذ التحدي الأول أعلن انتصاره علي ..
لفتت انتباهي صورة درويش، النقطة التي خلفَت اسمك سحبتني لها، نقطتانا كانت متشابهة، وكان الأمر طبيعي حتى الآن
صدقني أنني ما حلمت يوماً، لحظة واحدة، أن ألتقي بفتى يتشابه معي في نقطتين، نقطة الإملاء، ونقطة الاشتراكات الداخلية أيضاً.
كان درويش خجولاً، متردداً، بادئ الأمر، كما هم الشعراء في قصائدهم الأولى، لم أكن عارفة بأن الشاعر المرتبك كان يعلم بحذاقة الكاتب، أنه سيجعل الأمور لصالحه في النهاية، وأن الأيام ستقف معه لأنها هي أيضاً مثلي، معجبة به ..
وحدها نظارة محمود جعلتني أنظر مراراً لفتاة مختلفة كانت تغمض عينيها في الداخل، تُولي ظهرها للخارج، راغبة في أن يعثر عليها أحد، وإن كان هذا صعباً وبعيداً ..
يكتب، فتخرج الفتاة على مهل، عيناها العسليتان وقعت بالانجذاب لحروفه
يُنشد، كانت تضع يدها على أذن، وتترك أذناً تسمعه حتى لا يعجبها صوته
يقرأ، يملي يومه بهذه العادة، ظلت هذه الفتاة منشغلة به، تريد أن تصاحبه القراءة، أن تملأ كوبه بالشاي، وتشتري له أقلامه الملونة، لم تكن تعرف لذة الانشغال بشخص تحبه!
هل تعرف فشل التجارب الأولى لأي شيء في هذا الكون؟
هل تعرف كيف تتصرف لو صادفت شيء للمرة الأولى وحدك؟
حينما تفشل التجربة الأولى، يستيقظ الإنسان، ويدرك كم خطأ تم ارتكابه، كم صحيح لم يفعله، متعثر هذا الإنسان، تبقى تجربته الأولى حسرة بقلبه، إذ يتمنى دائماً لو أنه أستيقظ قبل أن يراها ذهبت منه وانتهت بوجع دائم.
هل تذكرك أية فاطمة بي، كما يفعل درويش ويذكرني بك حتماً؟
تغيرت صورة درويش وأزيلت من صفحتك مراراً، ولكنها عادت بعد سنة وتسعة أشهر، هل التقيت بوحيدة مجدداً؟
فاطمة المختبئة بكت كثيراً، وتمنت أن بقت على حالتها لم تخرج
تمنت المسكينة أن تتمكن من ملامسة كفيك، تقبيل طرف وجنتيك، أن تعدل بأصابعها شعرتك الطافرة تلك
أن تتبلل معك بدلاً من أن تغرم بشعرك المائي ذاك
هل درويش يعرف نفسه؟ هل يعرف ما يريد؟ متى ستنتهي وحدته؟ متى سيكف عن لعن الحياة والرغبة فيها معاً؟
أعلم بك، أعرفك لا تحب أن تكتب سوى حروفك الأربعة أعلى صفحتك، لقد غيرتها لرباعية جديدة، صدقني لو كانت أمك تعرف ابنها منذ البداية، لأسمتك تائه، صدق أنني فرحت باسمك الجديد، كدت أقفز وأصرخ: وأخيراً عرف ذاته!
كانت نصوصي جسر، حروفي البدائية طريق، لم أتوقع أن أحداً سيختار الجسر ليمتدحه، لم أعتقد أن أحداً سيرغب بالطريق وينشدُ إليه،
قل إذن، من ينتهي من طريق ما، هل هو متأكد بالضرورة من أنه عرف تفاصيله؟ هل يؤمن بأنه يصفه بحقيقيته؟
هزمني درويش مرة، حينما جعلني هائمة به راغبة بانشغالي فيه، ومراراً حينما عزفت عن الكتابة برمتها، مختارة ذلك خدعة لأبتعد عنه، نبهني في هذا السطر الأخير، أنني أكتب عنه، إليه، بعد كل هذا الجفاء بيني وبين الكتابة.