قربتُ من بعدِ بُعد
مُحَمَّد المَكّي
يعود بي الزمن إلى حيث مشهد المُقدسة والأجواء تميلُ إلى البرودة كثيراً، مُتجهاً من مقر السكن نحو قُبلة العاشقين بِسَكينة أخطو، مُتدثراً من برودة الجو، أخطو خُطوات حتى أصل عند نقطة الدخول إلى الصحن الرضوي.
عبر باب الرضا يوقفني حارس الدخول للتفتيش يقول لي ببخش”عُذراً” ويقوم بمهمته اللازمة، وبعدها يقول بِفرما “تفضل”، أشعرُ بنسمات الدفء تُدثرني ونفحات العطف دخلت إلى عمق روحي، فتوقفتُ قليلاً إنني بالوادي المُقدس! فلابدّ من خلع النعلين، مشيتُ حافي القدمين فحدثتُ نفسي: لا يمكنني أن أتجه إلى الضريح مباشرةً دفعة واحدة، فلابد من تهيئة النفس تدريجاً، فاتجهتُ إلى صحن انقلاب حيث تكون القبة النوراء مُكتملة الشهود، هناك المُصلى المخصص للنساء في الفرائض. هناك يُزدلف إليه من كل مكان، هذا يُناجي وذاكُ يُنشِدُ وآخر يتوّسل، وهُنا شابٌ مُقرفصٌ باكٍ حزينٌ، فوقفت أمام هذه القُبة العُظمى في هذا المكان وكان الوقت يُشير إلى الساعة الثالثة عصراً، وأنا واقفٌ مُتاملٌ هذه القبة روحي خرجتْ فحطّتْ على القبةِ عند الراية الخضراء، فأصبحتُ لا أشعرُ بأي شيء كالنسوة التي قطّعنَ أيديَهن والحديثُ كان الصمت والسكون أُلهِبت الحُب العِشق والشوق، وما أحسستُ إلا بقَرع الطبول مُشيراً إلى قُرب دخول صلاة المغرب عند الساعة الخامسة والربع، فعدتُ إلى الصحن الرضوي لصلاة المغرب.
هُناك السَّدنه يُهيؤن المكان بالسِّجادِ الأحمّر ذي الصُنع المحلي. يُنادي المُذَكِّر بالتوجهيات قبل الصلاة حتى يقول: إقامة نَماز مَغرب بإمامت حُجة الإسلام والمسلمين حاج آقا مَلكي، وإنّ لهذا الرجل صلاة فصيحةٌ خاشعةٌ تَشعر بلذةِ الصلاة خلفه، يبدأ بالصلاة والمَطَر يهطلُ بقطرات لطيفة خفيفة لا تؤذي الجسد ترتقي معها الروح، وفي الركعة الثانية يرفع الإمام كفيه إلى القنوت وكأنّك قد بلغتَ إلى حضيرة القُدس بدعاءٍ “وآتينا الأمان يا أمان مَن لا أمان له” وفي السجدة الأخيرة من الصلاة بنداء “وصلِّ يا ربَّ المُصلين على محمد وآل محمد ولا سيما علي بن موسى الرضا المرتضى” و ما أن تنتهي الصلاة حتى أشعر بخفة الجسد والروح.
أتجه إلى دار القرآن لأَسمعَ الآيات من الثِقل الأول بأجمل الأصوات، فحُرثتْ الروح وهُيئتْ للدخول إلى الضريح المُطهر لأحد أركان الثِقل الناطق، خطوات وخطوات والقلبُ يسبق الخطوات مُناجياً ” اللهم إني وقفتُ على بابٍ من أبواب بيوت نبيك…” وما أن وصلتُ إلى “فأذن لي في الدخول يا علي بن موسى” فأجدُ الروح تخضع مُسكينة مُستكينة وكأنّ هاتفاً يهمس إنني أنيس كل نَفْسٍ ورؤوفٌ بكل فردٍ وعطوفٌ بكل زائرٍ فقد أذنتُ لك فادْخُلْ بسلامٍ وبركاتٍ ورحمةٍ، فدخلتُ بشعورٍ مازجه الأُنس والدمع، أُنس اللقاء ودمع الشوق، أخذتُ كتاب منتخب الأدعية والزيارات فاتحاً إياه مُحملقاً نحو الضريح. هُنا حديث المُغرَمين حديث الروح بمناجاة الرؤوف وبسُكون العارفين، وكأنّ هَمساً مِن الملائكِ نادِ محبوبَكَ جالساً فإنه يُحب راحتَكَ، أيمكنُ للمحبِ أن يُخاطِب الحبيب جالساً؟! فالتفتُ دون أي شعور: يا علي بن موسى ها أنا والشوق إليكَ يزدَلِفُ أتيتك مُهاجراً إلى قلبك مُنكفئاً، مبتدءاً بـ”السلام على أمين الله في أرضه وحجته على عباده السلام على علي بن موسى الرضا” واللسان يلهج، والقلب يخفق، والروح تعتلي، واليد تلوّح، والجوارح طائعة، والجوانح نائحة، ومُختتم بـ” اللهم صلِّ على علي بن موسى الرضا المرتضى الإمام التقي النقي وحُجتك على من فوقَ الأرض ومن تحت الثرى الصديق الشهيد، صلاةً كثيرةً تامةً زاكيةً متواصلةً متواترةً مترادفةً كأفضل ما صليّت على أحدٍ من أوليائك ” وبعد الزيارة والدعاء فلا يليق بهذا المقام إلا قُرّة عين رسول الله وهي الصلاة أي: ركعتي الزيارة، فلا ألبثُ إلا أنني بروحٍ خفّتْ وزرها والقلب وصل إلى الرأفة والعظمة وبكُلي إلى العرشِ، فأصبحتُ خلقاً آخر دون شوائب وأدران فتبارك الله أحسن الصانعين الذي جعل موطنُ أوليائه محط العارفين السالكين ومُفرج هم المهمومين المكروبين، فقد ارتويتُ من عذب مائِه وازددتُ عطشاً بحبه، فيا إلهي اجمعْ بيني وبينه وعُد بي إلى ذلك القرب المقدس عاجلاً غير آجلٍ، ولا تفرق بين وبينهم طرفة عينٍ أبداً.