تأملات نفسية (2)
د. عبدالجليل الخليفة
علم النفس يدرس سلوك الإنسان ودوافعه وأفكاره وعواطفه وشخصيته. هذه الدراسة متشعبة جدًّا نظرًا للأسباب المختلفة للسلوك، التي لا يمكن قياسها كميًّا، ومن الصعب تطبيق المنهج التجريبي عليها في معظم الأحيان. لذا حاول علماء النفس محاكاة المنهج التجريبي من خلال:
• دراسة نفس الشخص عبر سنوات وظروف عديدة،
• دراسة أشخاص مختلفين عبر ظروف مدروسة لفهم ظاهرة معينة، مثلا: دراسة جامعة ستانفورد عن أثر التحكم في النفس إزاء المثيرات الغريزية مثل الحلويات للأطفال:
(The Marshmallow Experiment – Instant Gratification)
https://www.youtube.com/watch?v=Yo4WF3cSd9Q
• دراسة أشخاص مختلفين عبر سنوات عديدة، مثلا: دراسة جامعة هارفارد لمئات الأشخاص، لمدة تزيد عن 75 سنة في محاولة لمعرفة سبب السعادة،
Robert Waldinger: What makes a good life? Lessons from the longest study on happiness
( https://www.youtube.com/watch?v=8KkKuTCFvzI)
• إجراء تجارب مختبرية على الحيوانات ضمن ظروف مدروسة،
• مقابلات وتحليلات في العيادات النفسية يتبلور من خلالها مفهوم معين،
• دراسة الأديان والتراث الإنساني،
• دراسة أنثروبولجية لمجتمعات بدائية.
رغم كل هذه المحاولات، يبدو أنه من الصعب التأكد من دقة نتائج الدراسات النفسية، كما هو الحال في التجارب المختبرية في عالم المادة والطبيعة. فما يزال علم النفس يعاني من صعوبات عديدة منها:
• سلوك الفرد يمكن أن يكون نتيجة أسباب مختلفة، وليس سبب معين واحد،
• العالم النفسي يتدخل في الدراسة بفهمه وتأويله، لذا قد تعتمد النتيجة عليه، هذا يختلف عن التجارب الطبيعية على المعادن مثلا أو مراقبة الكواكب أو الفيروسات، حيث يمكن إعادة التجارب ومشاهدة الملاحظات نفسها من قبل أشخاص مختلفين.
• حاول بعض علماء النفس إنكار تأثير العقائد الروحية، مكتفين بالمشاهدات المادية، بينما اعتبر البعض الدين مؤثرا كبيرا في شخصية الإنسان.
• تعقيد الدماغ البشري الذي يكشف المزيد من الأسرار، ويبقى السؤال المحير: هل العقل نتاج عملية بيولوجية دماغية فقط (العقل والدماغ أمر واحد)، أو أن العقل يستخدم الدماغ لكنه مختلف عنه (هما اثنان العقل والدماغ كما يرى ديكارت)؟
إذا كانت نتائج علم النفس ليست دقيقة كما هي التجارب الطبيعية، فهل يستحق علم النفس كل هذه الجهود والأبحاث المستفيضة؟
الجواب، بكل تأكيد، نعم، للأسباب التالية:
• الحالات النفسية تعصف بملايين البشر كالاكتئاب والقلق والتوتر والهستيريا والفصام، وقد تؤدي إلى انتحار المصاب أو إقدامه على أمور تؤذي الآخرين،
• لقد أكتشف الإنسان الطبيعة، ولا يزال يجهل نفسه وطاقاتها ومحفزاتها، وهو يأمل أن يكتشف كيف يرفع أداءه وإنتاجيته، وكيف يحقق طموحه،
• ماهي عناصر الشخصية وكيف يمكن اختيار شريك الحياة، وفريق العمل وطريقة الإدارة، وتقليل مخاطر الاختلاف في الأسرة والعمل والمجتمع.
• حين تسأل في هذا القرن عن السعادة أو الوعي فلا تجد جوابا مقنعا، تفهم لماذا يجب أن نهتم كأفراد وجامعات وأمم بهذا العلم. والهدف أن يعرف الإنسان طريق الكمال.
لكن السؤال الوجيه هو لماذا تأخر علم النفس والاجتماع إلى القرن التاسع عشر بينما سبقته العلوم الطبيعية بمئات السنين منذ القرن الخامس عشر، وفي أي مناخ ولد هذا العلم؟
انبهر الغرب يالتطور العلمي والتكنولوجي منذ ثورة كوبرنيكوس الفلكية ومنتجات نيوتن الفكرية وغيرهم، وزادت الثقة بالعقلانية rationalism وأصبح كل شيء كما يراه الغربيون ممكنا باستخدام العقل، فلا حاجة للكنيسة والدين كإطار فكري ينظم الحياة البشرية. لقد أوجد هذا فراغا كبيرا انتبه إليه بعض الفلاسفة الغربيين ومنهم الفيلسوف كيركجارد(1813-1855م)، الذي تيقن أن العقلائية كما يراها الغرب لا يمكن أن تجيب على بعض المسائل الوجودية، فالقلق من الموت والمرض والزلازل والبراكين والمجهول يؤرق حياة الإنسان باستمرار. لذا اختار كيركيجارد الإيمان بالخالق كوسيلة لتهدئة هذا القلق الوجودي، بينما اختار غيره السباحة في بحر الماديات لأن عقلائيته- كما يرى- لا يمكن أن تستسلم لحقيقة الغيب وما وراء المادة. هذا ما عناه فريدريك نيتشه (1844-1900) حين قال: (لقد مات الإله ونحن الذين قتلناه). فنيتشه يعني بموت الإله غياب الإطار الديني الفكري الذي ينظر به الإنسان إلى الكون والحياة، وإذا غاب هذا الإطار الديني يصبح الإنسان في ضياع تام (nihilism). فلا معنى لما يفعل الإنسان، ولا شيء يستحق المعاناة. فرغم أنه لا شيء ممنوع أبدا، بل يمكن عمل أي شيء، إلا أن النفس تشعر بخواء وفراغ قاتل نتيجة ضياع وفقدان المعنى. لقد تنبأ نيتشه بمستقبل غامض يتراوح بين خيارين هما:
الأول: أن يكتشف الفرد قواه الشخصية، عسى أن يعبيء الفراغ من خلال عمله وإنجازه، وليس قوله فقط. ولعل نيتشه يشيرهنا إلى الحاجة الشديدة لدراسة النفس في محاولة لإنقاذها من براثن الضياع المعنوي.
الثاني: إذا لم ينجح الإنسان في سد هذا الفراغ، فسيبادر من يستبدل الإطار الديني بإطار آخر يعطي معنى خاطئا للحياة. هذا ماتحقق فعلا فقد جاءت الفاشية والنازية وغيرهما لتملأ الفراغ، فأشعلت الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الغشرين وأودت بحياة عشرات الملايين من البشر.
في هذه المناخات الفكرية والفراغ الروحي والمعنوي في القرن التاسع عشر، جاء دارون بنظرية التطور والانتخاب الطبيعي، فأصدر كتاب أصل الأنواع عام 1859م وكتاب أصل الإنسان عام 1871م، ولا تزال هذه النظرية محل نقاش مستفيض من أهل الاختصاص، و لعل المستقبل يكشف صحة أو خطأ هذه النظرية. وجاء بعده فرويد بنظرية التحليل النفسي التي سيتم نقاشها في المقالة القادمة والحمد لله رب العالمين.