الضفاف وفلسفة الفكاهة! قراءة انطباعية في ديوان أحمد الرمضان
رباب حسين النمر
غالبا ما تفتش عن سمة غالبة عندما تجوس عيناك في فهرسة ديوان شعر، أو تتجولان في نزهة بصرية وفكرية فتنططان بين القوافي والأشطر، تبحث عن هوية الشاعر المختبئة خلف كلماته، وعن شخصيته المندسة تحت طي لسانه.
عندما شارفنا (ضفاف أخرى) جهزنا قارب الكشف للإبحار عبر الضفاف، وراح القارب في نزهة استكشافية ليجد شاعرًا يتمتع بذكاء اجتماعي وعاطفي، يبتعد عن قولبة نفسه أو حصرها في اتجاه واحد، بل تجد في الديوان تقسيمات متنوعة تتراوح بين الشعر الاجتماعي، والفكاهي، وشعر الغزل، والرثاء. وتجذبك بقوة روح طريفة، تجذبك بلطفها ودماثتها إلى منطقة نحتاجها كثيرا في حياتنا الراهنة لنخفف من وطأة ضغوطات العمل والمسؤوليات اليومية، ومن حدة التوترات الناشئة عن الازدحام المروري، ومختلف المشاكل، لأن الأدب محطة راحة واستجمام وترفيه للنفس حين يتكئ الإنسان بعد عناء يومه إلى ديوان شعر مع كوب شاي ساخن وسيمفونية رائقة كتسجيل حالة خروج يومي.
يتمتع الرمضان بروح الدعابة والمرح، ويمتاز بحس فكاهي عال يمكنه من شعرنة معانٍ ومفردات بعيدة عن البعد عن الشعر، وينفخ في رئتها بفن واقتدار جمالًا أخاذًا، يؤنسنها ثم يخاطبها، يتكيء في ذلك على لغة مجازية ووصفية بارعة تمنكه من رسم صور فريدة وحبك قصص شعرية/ سردية وتقديمها في قالب فكاهي متميز.
وقد سُئل ألبرت أينشتاين عن مصدر إبداعه وذكائه، فقال: إن السر كان في حس فكاهته، فالشخص نفسه الذي رافقه منذ الطفولة لا يزال في الداخل، قادرًا على النظر إلى العالم بفضول وبراءة ، وهو شخص لم يفقد قدرته أبدًا على الدهشة، وقدرته على الضحك.
تؤكد إجابة أينشتاين على أهمية الفكاهة في علاقتها بالذكاء البشري، وتأتي منسجمة مع الكثير من الدراسات الاجتماعية، والنفسية العصبية التي تعزز فكرة وجود ارتباط بين حالاتنا العاطفية الإيجابية والإبداع.وهذا ما ينسجم مع توجهات الرمضان في مسيرته الشعرية.
وجدت الدراسات العصبية النفسية أن المرور بحالات عاطفية إيجابية، مثل الفرح والمرح والسعادة، يزيد من إنتاج الدوبامين في الدماغ فيجعلنا نشعر بالسعادة، ويفتح مراكز التعلم التي تحافظ على المزيد من الاتصالات العصبية وتُمكِنها في الدماغ. ونتيجة لذلك يصبح تفكيرنا خلاقًا ونكون أكثر قدر على حل المشكلات، كما أنه يعزز ذاكرتنا وتركيزنا الذهني.
ومن الناحية الاجتماعية فإن الضحك هو الحياة وروح الدعابة التي تربط بين الناس وعن طريقها تخف حدة التوتر، و تعزز نظام المناعة، وتجعلنا أكثر إنتاجًا في وظائفنا.
اكتشف الباحثون في النمسا أن الأشخاص المرحين، ولاسيما أصحاب النكتة الساخرة يتمتعون بمعدلات ذكاء أعلى من أقرانهم الأقل فكاهة ومرحاً.
حجتهم في ذلك أن الأمر يتطلب قدرة معرفية وعاطفية على حبك الطرفة أو الدعابة وإلقائها. ويظهر تحليلهم أن الناس المرحين يتمتعون بذكاء لفظي وغير لفظي أعلى، ولديهم معدلات أقل في اضطراب الأمزجة والعدوانية.
ووفقاً لتقرير نشره المنتدى الاقتصادي العالمي، فأن أصحاب الفكاهة لا يتمتعون بالفطنة فقط، لكن وجودهم يضفي جوا من المرح. وتشير الأدلة إلى أن حس الفكاهة يرتبط بذكاء عاطفي عال.
إن الشخص المرح يُضحِك الناس، ويضحك.
ولو تتبعنا قصائد الشاعر أحمد الرمضان لوجناه يبرع في رسم لوحات فكاهية بالكلمات، ومشاهد حية تتحرك كأنها فيلم سينمائي تشاهده على شاشة عرض.
ومن ذلك:
١. معارك الرجيم:
مشهد يدور حول ممارسة الرجيم (الحمية) في معارك حامية الوطيس، ففي قصيدة( من هو المجرم ) يصور امتناعه عن الطعام ثم انقضاضه عليه في صورة كوميدية بديعة:
كنت في دار صديقي محرما
وفمي عن كل شيء فطما
نظرة الطفل على وجهي بدت
وضميري من حيائي صدما ..
حتى يقول:
فجأة أوقف عقلي طبقٌ
لبريق منه إحساسي اعتمى
إذ بها حسناء طابت ريحُها
رُفع القصديرُ منها مرغما
… ثم يقول
فأكلت الجيش والحسنا معا
رب من خاض الوغى دون دما.
وفي قصيدة أخرى تنتهي قصة الرجيم عند الرمضان بالفشل وعدم السيطرة على إغراء الشهية ولا سيما إذا الإغراء متمثلًا بمائدة الأم المكتنزة بالصواني اللذيذة
لتكون النتيجة( وأول ما ابتدات بها إذا بي
بلا وعي أسير لطبخ أمي
وصار بجدولي أثر الصواني
وكل رياضتي تحريك فمي)
٢. غزل الطعام:
ومن حسه الفكاهي البديع مغازلة الطعام وما يتعلق به، وإبداء الشكر والامتنان للمرأة التي تحضر الطعام فقد نعتها بجوهرة الجواهر
جوهرة الجواهرِ
أتت بكل فاخرِ
أتت بأطباق حوت
مسرة للناظرِ
وكنت قبل جائعا
في الشغل غير فاطرِ
مقدما شكري إلى
جوهرة الجواهرِ.
ويخلع الرمضان على (سندويشة) الصباح صفات المحبوبة فهي باسمة الثغر، ممشوقة القوام، بيضاء، ملتفة بمعطفها .. يقول
لعيني أسهبتُ في وصفها
وقال عني البعض غير صاحي
فكل يوم هذه قصتي
أنا وسندويشة الصباحِ.
وكذلك يفعل مع (المشاوي) حيث يصفها بالحسن والزينة وعذوبة الصوت، وبأنها تذيب القلب، ويصاب المقترب من حسنها بالاضطراب فيطرب ويبتلع ريقه الجاف، وتنثني ركبتاه:
ويلي فقد مثلت في صدر مضجعها
أذا تسجّت أمامي تنثني ركبي
هي المشاوي أذا أبصرت زينتها
لا أعرف الفرق بين الجد واللعب.
و(للقيمات) في مدح الرمضان وغزله نصيب وأي نصيب، فهي الحبيبة دون منازع يبذل لأجلها الشعر والقوافي، ويتدفق أبياتا حتى يحصل عليها، ويسرف في وصف دقائقها وخصالها وصفا دقيقًا:
فحبي يا أخي ليست فتاة
تهديد حول عينيها الخمارا
وحبي يا أخي ليست نقودا
ولا جاها أقوّي به الضمارا
ألا ان الحبيبة لي كراتٌ
من القيمات فيها الحسن دارا
إذا جاؤوا بها من أم فهد
ترى الإبداع منه العقل طارا
مقرمشة تكسر في لهاتي
وتتخذ الشفاه لها قرارا
ومن بعد المسافة أجتنيها
أقلبها يمينا أو يسارا
وأحسب صقلها ذهبا إذا ما
عليها الدبس ينتشر انتشارا
ولولا أنها للأكل ترجى
جعلت لمعصمي منها سوارا
ويطيب خاطر الرمضان بصحن (بسبوسة) في ظل ازدحام مشاق العمل، وازدحام الطريق، فلا يكاد يبصره حتى ينسى أتعابه، ويبرع في الوصف:
حيث أنساني انشغالي
جاعلا ذهني يفيق
إنها بسبوسة تزخر
بالذوق العريق
فاجتمعنا مثل نحل
قد همى فوق الرحيق
ومثلها: ( صحن الخنفروش) و( صينية المندي) حيث يبلغ حسه الفكاهي قمته في (ساعد الله فؤادي)
والسبب :
حين يعروني فتور بعد ذاك الجهد
في شكلي وفعلي واجتهادي
إنه المندي في فكري ينادي..
ويبشر أبا جاسم بعودة (صوص الديك) إلى أرفف البقالات، ويحتفي بذلك أي احتفال فيقول:
يا شطة ملأت أطباقنا سمة
وجملت في شذى أشعارنا الجملا
حن الفلافل يهوي دفقها غرقا
والأرز يأخذ فيها للهوى قُبلا
وذا البطاطس أعواد له سبحت
من سكبها وعليها الخاطر اعتدلا
بمسكها دائما تاهت موائدنا
تحلو وما غيرها في الطيبات حلا
٣. كليلة ودمنة الرمضان:
ومن فكاهيات الرمضان شكواه من بعض الحيوانات المنزلية، مثل القط الذي التهم صوصه فأحرق قلبه وأثار غضبه، يقول:
لهفي فلم أر منه إلا ريشه
يوما نسيت الباب فاحترق الدمُ
واصطدت ذاك (الطفس) بعد مشقة
وأنا الذي يًجنى عليه فيحلم
ونفيته للسوق وهو مكانه
يفتر ما بين القُمام ويُرجَم.
٤. مدح المطاعم
وللمطاعم نصيب من فكاهة الرمضان ومدحه، مثل مطعم أيام زمان ومطعم نجم سهيل، يقول:
أخبروهم أن محبوبة ابن الرمضان
وجدت في شارع القدس بأيام زمان
مشيرًا إلى( المشاوي) التي يقدمها مطعم أيام زمان.
ويشيد بمطعم نجم سهيل الذي يقدم الطعام اليمني، فيقول:
كل ماكولاتهم طازجة
تسحر العين بلون حسنِ
خدمة طيبة صادقة
لذة في طعم شغل متقن
وبأسعار تهاوت خجلا
نالها كل فقير وغني
زره كي تحظى بصحن فاخر
وبخبز حارق للألسن
لتعود البيت مبرورا كما
عدت من صنعاء أو من عدنِ
٥.فوكهة بعض المستجدات وجعلها مادة كوميدية:
يبرع في وصف المنصة المدرسية ويبرع في توظيف المفردات الدارجة فيطعم بها نصه كما يُطعم عقد من الذهب بنفائس الجواهر ، يقول:
لا يزمر السواق فيها صارخا
لركوبهم في الباص باستعجالِ
لا فاتن ركلت سميرة ركلة
كلا ولا سُرقت خيوط منالِ
ما جاء فاضل للديار ممردغا
ما جاء مفلوعا بمط نبالِ.
وأبدع في تحوير قصة سندريلا وجعل إرسال حذائها وقرطيها بالدي إتش إل.
كما أبدع في تشبيه حركة رجفة البردان باهتزاز الجوال عندما تتوالى عليه الرسائل
جسمي أذا يبعد عن ملحف
أفزعُ كالعصفور كي أعيده
كأنني الجوال في رقصه
يهتز بالرسائل العديدة.
ويبقى الشاعر أحمد الرمضان فارسًا يجيد رسم فن الكاريكاتير بالكلمات والصور الشعرية. ويتميز بالقدرة على اقتناص المواقف اللطيفة ويحسن التعبير عنها.