رباب حسين النمر
هواة التسلق! تغريهم الجبال الطبيعية شاهقة القمم، ذات الطبيعة الساحرة والجو المعتدل، فيتزودون بتجهيزاتهم الخاصة من ملابس وأحذية مناسبة للتسلق، ومناظير أو حقائب تضم مقتنيات خاصة وأطعمة ويقصدونها للتمتع بتجربة مغامرة رائعة في أحضان الطبيعة.
وحينما تطأ أرض مكة المكرمة معتمرًا، ويمن الله عليك بإتمام المناسك، يدغدغك شعور عارم ورغبة جامحة للتوجه إلى جبل النور، للوصول إلى غار حراء، ذلك الغار الصغير لا يتسع لأكثر من خمسة أشخاص جلوسًا، والداخل إليه يكون متجهًا نحو الكعبة، ويطوف بذهنك أن تخطو على الطريق الذي ضم خطوات نبي الرحمة سلام الله عليه، وضم خطوات أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ضم خطواتهما في ممارسة ( هايكنق نبوي) له أهدافه السماوية والروحية قبل أن يعرفه هواة الرياضة والتسلق بألف وبضع مائة عام على أقل تقدير.
عندما تقبل على الجبل تساعدك السيارة بادئ ذي بدء على تخطي أولى عتبات الصعوبة في ذلك المنحدر الوعر، ثم ترميك على أولى درجات التسلق لتبدأ تجربة الصعود والارتقاء.
في الخطوات الأولى تنتفخ رئتاك حماسًا، ويمتلئ صدرك بزهو فرح البدء، تتأمل ذلك الجبل الشاهق، تنظر للأعلى، وتتخيل كيف كان الرسول محمد صلى الله عليه وآله يبتعد عن أجواء مكة المكتظة بمظاهر الباطل والحياة المنفتحة التي لا تروقه!
كيف كان يصعد هذه المسافة ويدخل غار عزلته عن العالم في هذا المكان الذي انبثقت منه أنوار الوحي وكلمات الرسالة.
تتأمل أفواج المتسلقين ما بين صاعد وهابط، وكلما أوغلت في الصعود وابتلعتك صعوبات التسلق تشعر بضغط هائل على القلب والصدر، فتلهث، وتتسارع أنفاسك، فتلقي بجسدك المتعب على إحدى الدرجات لتلتقط أنفاسك وتشرب شيئًا من الماء، وتستشعر من خلال التجربة كم تحمل النبي صلى الله عليه وآله من مشاق ليصنع منا أمة!
تعاود الصعود، وفي كل خطوة تتعلم من المدرسة النبوية عِبرًا وحِكمًا في الصمود والصبر والتحمل، والإصرار على بلوغ الهدف، وبذل المشاق لتصل ولترتقي.
ولم يكن الرسول محمد صلى الله عليه وآله يصعد إلى غار حراء فحسب! بل كان هناك قلب محب ومناصر ومساند يتعقبه، يصعد خلفه على خطواته ذاتها، قلب الأنثى العاشقة الذائبة في ذات الله التي اختارت يتيم آل محمد وهي تعلم علم اليقين ماذا ينتظره من مشاق ومصاعب!
تتناثر على الجبل خطوات خديجة الحانية ويداها ممتلئتان بالزاد والطعام.
تزوره لتطمئن على الحبيب، وتغذي روحه بالمساندة قبل أن تغذي جسده بالطعام.
تصعد ذلك الجبل الذييبلغ ارتفاعه ٦٣٤م فوق سطح البحر، وكلما ارتفعت ازداد الطقس حرارة، والتضاريس وعورة، يقول محمّد حسين هيكل في كتابه “حياة محمّد” إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يذهب إلى غار حراء مرّات عديدة طوال السنّة، ولكنّه إضافة إلى ذلك كان يقضي شهر رمضان كاملًا في غار حراء. وكانت السيّدة خديجة تبقى لوحدها في المنزل طوال مدّة غيبته، وكانت سلام الله عليها تحمل له الطعام بشكل منتظم فتصعد به إلى الغار في أعالي جبل النور.
أي امراة أنتِ يا خديجة!
إلى أين كانت تصل خطوات الرسول محمد صلى الله عليه وآله؟ أية قوة جسدية كان يحمل؟ وأي صلابة صبر كان يكتنز، وأية قواسم مشتركة كانت تجمعكما وتولّف بين قلبيكما لتكون ولادة أمّة!
لم يكن الوصول إلى الغار سهلًا، ولا سيما أن بعض النازلين يثبطون عزيمة الصاعدين ويوسوسون لهم أنه ليس ثمة ما يستدعي تجشم عناء مواصلة رحلة الصعود غير بعض الصخور التي لا تختلف عنها في سائر الجبل، ولكن المتعطش لمثول بين يدي التاريخ، والراغب في أن يكون شاهدًا حاضرًا بمكان هبوط الوحي ومتعبد محمد صلى الله عليه وآله يطرد كل تلك الوساوس ويزداد إصرار عزيمته على مواصلة درب التسلق!
لم تكن ثمة درجات مبنية قبل ألف وأربعمائة سنة!
هذه الدرجات وإن كانت وعرة وغير متناسقة، وتعرض العابر لخطر الانزلاق والسقوط، إلا أنها كانت تسهل عملية التسلق، ولم يكن محمد يصعد على مثل تلك الدرجات، بل كان يتسلق الصخور صخرة تلو أخرى، فسلام عليك يا نبي الرحمة كم تحملت من مشاق.
كلما صعدت.. وظننت أنك اقتربت، تكتشف أن الغار لا يزال بعيدًا، وتواصل وتواصل، وترى اللاهثين يواصلون المسير، والوجوه المتعبة تواصل رحلة الجهد لتصل!
تنسى نفسك، وتنسى رجليك اللتين بدأتا في التورّم، وتشعر بنشوة الانتصار حين تبلغ القمة، فتتلفت يمينًا ويسارًا لتلف نظراتك مكة المكرمة كاملة، وتتجه إلى بيت الله الحرام، قبل أن تبدأ في رحلة نزول صغيرة من القمة إلى الجهة الأخرى حيث مهبط الوحي.
كانت تلك تجربة فريدة من نوعها مليئة بالعِبرة والإثارة والشوق والمغامرة، ومن خلالها ستكتشف حجم جزء صغير جدًا من الصعوبات التي تحملها محمد وتحملتها خديجة، حتى نزل النور باُقرأ .. ليجاوب محمد: ما أقرأ؟
فيطمئنه الوحي: اقرأ باسمك ربك الذي خلق.
