يوميات نائب في الأرياف: ما بين الفكاهة ونقد القضاء المصري
زينب الأحمد
تحكي الرواية قصة وكيل نيابة جاء من القاهرة حتى يعمل في نيابة إحدى قرى الصعيد. ينجح الكاتب في جذب انتباه القارئ منذ الصفحات الأولى حيث تبدأ بتذمر البطل -وهو وكيل نيابة انتقل من القاهرة حتى يعمل في إحدى قرى الصعيد- وتبرمه وتحسره على نفسه بسبب هذه الوظيفة التي لا تترك له وقتًا حتى للنوم والراحة. إن أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هي الفكاهة التي تتسم بها، وقد اندهشت عندما وجدت نفسي أضحك بشدة في بداية قراءتي، إذ أن الروايات التي تدفع للقهقهة نادرة جدًّا، وكما يقول أحد مراجعي الرواية فأنت ستضحك في البداية وستدرك أثناء تقليبك لهذه الرواية أن هذا الضحك سينقل لك شيئًا من النقد والتفكر في حياة أهل القرى والقضاء المصري، وفعالية “القوانين المستوردة”، ولطالما حملت النكتة نقدًا لاذعًا نقر به لا شعوريًّا حينما نضحك.
أول ما لفت انتباهي كدارسة للقانون هو الانتقادات المتعددة التي وجهها الكاتب لآلية عمل القضاء المصري في الأرياف، ولا عجب في ذلك إذ أن توفيق الحكيم قد حصل على ليسانس الحقوق وعمل لمدة سنة في النيابة قبل أن ينصرف للأدب والكتابة، وبالتالي فإن لديه تجربة عملية تخوله لمعرفة مشاكل القضاء في الريف المصري. على سبيل المثال، فقد نقل الحكيم أحد انتقاداته على لسان البطل في قوله “ولم أر واحدًا من المخالفين قد بدا عليه أنه يؤمن بحقيقة ما ارتكب، إنما هو غرم وقع عليهم من السماء كما تقع المصائب وإتاوة يؤدونها! ولطالما سألت نفسي عن معنى هذه المحاكمة، أنستطيع أن نسمي هذا قضاء رادعا والمدرك لا يدرك أنه مذنب؟”. فهو في هذا المقطع يتحدث عن حقيقة أن أهل الريف لم يكونوا يفهمون بعض الأفعال الجرمية وما يترتب عليها، فقد بدت لهم أفعالٌ بدهيّةً وعادية لا يجب للقانون أن يتدخل فيها أو يمنعها مثل تسجيل كلابهم في سجلات الحكومة، أو الامتناع عن غسيل الثياب في الترعة! وبالتالي فقد كانت العقوبة تطبق عليهم دون أن يدركوا أساسًا طبيعة الخطأ الذي ارتكبوه، وكيف يؤثر هذا الخطأ سلبًا عليهم وعلى من حولهم. وهنا نرى أن القضاء يكون دون فائدة إذ أنه لا يحقق الهدف الرئيس لإيقاع العقوبات وهو تحقق الردع، فالردع لا يتحقق إذا لم يكن المذنب أو المجتمع من حوله يفهمون -ولو لمامًا- طبيعة خطئهم، فالكاتب هنا يفصل في أحد عناصر المسؤولية الجنائية التي تتمثل في أن يدرك المذنب معنى فعله وما فيه من ضرر، ويوضح ذلك في أحد تعريفات المسؤولية الجنائية “تحميل الإنسان نتيجة أعماله ومحاسبته عليها لأنها تصدر منه عن إدراك لمعناها ولنتائجها وعن أرادة منه لها” ، وربما نفهم أكثر أسباب هذه المشاكل حين ننظر إلى السياق الزمني والتاريخي وقت إصدار الرواية، وذلك في عام 1937، فربما يكون تطبيق القانون في الريف المصري أمرًا جديدًا على الفلاحين، وربما يكون ذلك لسبب آخر ذكره الحكيم وهو استيراد القوانين. وقد صرح الكاتب بهذه المشكلة في سياق نقاش حصل بين القاضي والمذنب الذي قال بأنه لم يكن يعلم بانتهاء مواعيد الاعتراض على الحكم، فرد عليه القاضي بأنه “مفترض فيه العلم”، وافتراض العلم من أهم وأول المبادئ القانونية التي تدرس في كليات الحقوق لطلاب السنة الأولى، ومقتضاه أن الجميع مفترض فيه العلم بالقوانين ما دامت قد نشرت في الجريدة الرسمية، لذلك لا يجوز لأحد الاعتذار بالجهل بالقانون. ويحتج الحكيم بأن مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون هو مبدأ مستورد من فرنسا، لا يصح تطبيقه دون مراعاة لظروف هؤلاء الفلاحين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
كما أن الفساد والاهتمام بالشكليات دون المعاني المقصودة منها كانت أحد أهم النقاط التي ركز عليها الكاتب، فقد كان وكلاء النيابة يصرفون وقتهم في إجادة كتابة المحاضر دون الانتباه للضحية المسجى أو يسارعون إلى “التصرف في القضية” ولو لم ينته التحقيق فيها حتى يسجل في نهاية العام، أنه تم التصرف في هذا العدد الكبير من القضايا.
أعتقد أن توفيق الحكيم نجح في تشريح هذا المجتمع بدقة وبراعة على لسان شخصية لطيفة تروي مذكراتها -عن التحقيق وملاحقة المجرمين – بتبرم وملل تارة وفي سخرية لاذعة ومضحكة تارة أخرى، ومما يضيف للرواية رونقًا مختلفًا هو لجوء المؤلف للهجة المصرية الدارجة في بعض المواقف، حيث ينقل لنا من خلالها أجواء الريف ومواقف أهله المضحكة أمام مجلس القضاء، وقدم لنا في ذات الوقت رؤية شاملة تشرح لنا كيف يكون القضاء عبئًا على أهالي الريف فلا هو مناسب لبيئتهم التي يعيشون فيها، وليس هناك من يتبرع لإفهامهم هذه العقوبات التي تنزل عليهم ولا يعرفون للفرار منها سبيلًا.