الحرف وتراث الأحساء التاريخي
طالب عبد الحميد البقشي
يشكل تراث الأحساء التاريخي رافدًا حيويًّا وهامًا في جذب المهتمين بالتاريخ والتراث والآثار من الباحثين الأكاديميين والكتاب والمثقفين وهواة السياحة ومحبي اقتناء القطع الأثرية.
وتمتاز واحة الأحساء بالآثار التاريخية العريقة والكثيرة التي ينطوي فيها مخزون واسع من ذاكرة التاريخ، فعلى أرضها الطيبة تحتضن (40) موقعًا أثريًّا، 9 منها مواقع أثرية مُدرجة على لائحة التراث العالمي، وهي: واحة الأحساء، وقصر صاهود، وجبل القارة، وقصر محيرس، ومسجد جواثى، وميناء العقير، وسوق القيصرية، وقصر أبو جلال، وموقعان قد هُدما، وهما: قصر العبيد عام 1975، وقصر أجود بن زامل.
وأهالي الأحساء محبون للتراث المحلي والفنون الحرفية، وتجلى هذا العشق في إنشاء الكثير من المنازل بالطراز العمراني التراثي الإسلامي ذي الطابع الفريد، وإنشاء مشاريع مطاعم واستراحات وفنادق بتصميم عمراني تراثي، لما لها من جاذبية ساحره تجذب الزائرين الراغبين في الاستجمام والراحة، وإنشاء متاحف تراثية جُمعت فيها كثير من المقتنيات الحرفية التراثية التاريخية والبديعة في التصميم، والتي تبدي مهارة فائقة للصانع الأحسائي في هذه المقتنيات الحرفية.
وتمثل الحرف اليدوية التي برع في صناعتها غالبية رجال الأحساء القدامى من الأجداد والآباء بصمة تاريخية وتجربة إنسانية موثقة في ذاكرة التاريخ، وجزءًا هامًا في سجلات ومدونات التراث التاريخي للأحساء.
وفي هذه الحقبة التاريخية التي اعتمد فيها ابن الأحساء على الحرف والمهارات اليدوية، كانت مزاولة هذه الأعمال مصدرًا رئيسًا للمدخول اليومي لتكاليف المعيشة، ولاسيما أن الطبيعة الجغرافية لأرض الأحساء الزراعية تفرض انتشار كثير من الحرف اليدوية، ومنها الأعمال الزراعية اليدوية. فعلى المزارعين توفير أدوات الحرث والعناية بالمحاصيل الزراعية، مما ساعد في توسع وانتشار تواجد حرفيو الحدادة، ومزاولة هذه المهنة وصنع الأدوات الزراعية لها، ومنها المحش والقدوم والمنجل والصخين. وتعد حرفة الحدادة من أعرق الحرف القديمة التي ازدهرت في ربوع الأحساء ،واشتهر بمزاولتها كثير من أبناء أسرة الحداد.
كما أشتهر عن أسرة القطان حرفة القطانة وحياكة المشالح، واشتهر عن بعض الأسر احتراف صياغة الذهب ومنهم أسرة البقشي والأربش، والباذر، والبن عيسى، والبوجبارة، والدجاني، والصايغ، والمهنا، والموسى، والمؤمن، والنجيدي، والنمر، والوايل. وكثيرة هم العوائل الأحسائية التي زاولت حرفة الصياغة وليس هنا مورد حصرها.
وكثير من الأسر الأحسائية اشتغل أبناؤها في حرف متعددة توارثوها من الآباء حتى لُقبت الأسر وعرفت باسم الحرفة التي احترفتها لسنوات متعاقبة.
وتعددت الحرف والأعمال اليدوية لرجال الأحساء القدامى، فقد عملوا في غالب الحرف والمهن، واشتغلوا في صناعة الفخار، وصناعة المدد ،والصفارة، والقطانة، والنجارة، والحدادة، ونسج المشالح وحياكتها، وحبك الكتب، وصياغة الذهب التي كان لها حاجة واستخدام ويطلبها غالبية مجتمع الأحساء في تلك الحقبة التاريخية.
وقد اشتغل الحرفي الأحسائي القديم في هذه الحرف بكل إتقان ومهارة، وأمضى سنوات طويلة من عمره حتى أبدع في مصنوعاته الحرفية واشتهر بها في دول الخليج والوطن العربي، ومنها حياكة المشالح التي ازدهر العمل بها وتميز فيها الحرفي ابن الأحساء، وباتت حلة الملوك المفضلة والمحببة للاقتناء على سائر الحياكات المعروفة في الأقطار العربية.
وأول كسوة فاخره تم نسجها وحياكتها لبيت الله الحرام كانت بأيادٍ حرفية أحسائية في منزل عيسى بن شمس في عهد الأمام سعود الكبير.
وشكل اشتغال الأجداد والآباء في هذه الحرف تجربة إنسانيه رائدة، وأرثًا ممتدًا في عمق تاريخ الأحساء.
وفي بداية ظهور البترول وتنامي الطفرة الاقتصادية كانت مرحلة تاريخية جديدة، وتحول في تطور الكثير من الحرف اليدوية، وبروز مهن صناعية جديد، وأفول الكثير من الحرف اليدوية، وذلك لمردودها الذي بات لا يفي بتكاليف المعيشة، وعزوف الأبناء عن هذه الحرف لقلة مدخولها المادي.
وهذا العزوف من الأسباب
الرئيسة في اندثار الكثير من الحرف الأحسائية المشهورة على مستوى الخليج العربي.
وفي عصرنا الحديث نجد أن هذه الحرف المندثرة لها ارتباط وثيق بتراث وآثار تاريخ الأحساء القديم، فهذه الحرف موروث أصيل للأجداد، من خلاله انتقلت
خبرات ومهارات من جيل إلى جيل حتى وصلت فنونها ومقتنياتها الحرفية لنا معبرة
عن طبيعة الحرفي الأحسائي. وتاريخه.
ولأهمية هذه الفنون الحرفية التي اعتمدت على الأيادي الذهبية لابن الأحساء القديم، وأهمية المعالم التراثية والآثار الحرفية المحلية القديمة المشرفة على الأندثار، والتي تمثل واجهة مشرفة لواحة الأحساء فأن الجهات الرسمية أولت أهتمامًا بالغًا، وبذلت جهودًا كبيرة في إحياء التراث بما يحويه من معالم تراثية وفنون حرفية ومقتنيات وآثار تاريخية، حتى شكل على أثر ذلك سوق الحرفيين بالهفوف، المصمم على الطراز الترابي على مساحة 12 ألف متر، والمكون من 26 متجرًا مختصًّا بالحرف الأحسائية، ويوجد به رواق دائري تقام به فعاليات ومهرجانات تراثية للفنون الحرفية الأحسائية، وكذلك تم إنشاء مركز الحرفيين بالأحساء التابع للبرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية خلف “أمانة الأحساء، وتم تشغيل مركز الأبداع الحرفي في مدرسة الهفوف الأولى (المدرسة الأميرية) من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وتم إنشاء قرية الأحساء التراثية، وإنشاء متحف الأحساء الوطني، كما يتم تنظيم وأقامة المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) سنويًا، والذي يشارك في فعالياته جميع الحرفيين على مستوى وطننا الغالي.
ولقي التراث الحرفي والأثري والعمراني للأحساء أهتمامًا ومساعٍ لإحياء هذا التراث من الاندثار من قبل أهالي الأحساء المحبين والعاشقين لتراث الأحساء المحلي، ومن رجال الأعمال والكتاب وهواة جمع المقتنيات التراثية ومن هذه الشخصيات البارزة في هذا المضمار رجل الأعمال المهندس عبدالله الشايب الذي يعد أحد رواد التراث العمراني، وقد أنشأ مركز النخلة للصناعات الحرفية للتدريب، ومن الكتاب الذين كتبوا عن التراث والحرف في الأحساء الكاتب أحمد البقشي الذي ألف كتاب (من الذاكرة الأحسائية)، والكاتب خالد الفوزان الذي ألف كتاب (الأخبار عما في الأحساء من التراث والأثار) وغيره من المؤلفات الكثير، كما أن هناك محبين للتراث اجتهدوا في إنشاء متاحف جمع فيها الكثير من مقتنيات حرفيي الأحساء، ومنها متحف دار التراث في قرية المنصورة، الذي قام بإنشائه وجمع قطعه التراثية الأستاذ جعفر الخواهر حيث يضم المتحف نحو ثلاثة ألاف قطعة أثريه متنوعة، ومتحف الخليفة التراثي في مدينة المبرز ويضم آلاف القطع والمقتنيات الأثرية النادرة، وقد قام بتأسيسه حسين الخليفة، ومتحف وليد الناجم الذي أسسه وليد بن عبد الله الناجم، ويضم حوالي من 70 إلى 80 ألف قطعة أثرية، ومتحف فيض الزمان، ومتحف كنوز الماضي، ومتحف صالح الظفر، وغيره، وليس هنا مورد حصرها.
وبفضل هذه الجهود المتواصلة في يونيو 2018، تم تتويج وضم محافظة الأحساء إلى قائمة التراث الإنساني العالمي باليونسكو، باعتبارها مستوطنة كُبرى على مدى 500 عام مضت، ضمت بساتين النخيل والقنوات والعيون والآبار، ومناطق أثرية ومجموعة من التراث العُمراني داخل مستوطناتها التاريخية، وفي عام 2019 اختيرت الأحساء عاصمة للسياحة العربية، وهي أيضًا عضو في شبكة اليونسكو للمدن الإبداعية في مجال الحرف اليدوية والفنون الشعبية.
ولا تزال الأبواب مفتوحة والفرص سانحة للمبادرات التطوعية السباقة لإحياء مشاريع التراث والحرف المندثرة الأحسائية من قبل الهواة والمحبين للتراث المحلي، والمساهمة في تعزيز مكانة الوطن وواحة الأحساء والرقي بتاريخنا الحضاري.