شذاً من محرم
سهام البوشاجع
لبس ثوبه الأسود الذي كان قد أعده مسبقا لمثل هذه الأيام، ثم دلف بقدميه يتمشى في شوارع توشحت بعبارات وكلمات وآيات، بدت مختلفة عما كانت عليه بالأمس، حتى وصل فإذا به يلبي نداء الضيافة التي تكون في العادة عند البوابات والمجالس، ثم علا صوت الخطيب ببدء المجلس بجملة “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” فدخل وأخذ له مكان استوى عليه، ليبدأ رحلة استماعه لمحاضرات وخطب أيام عاشوراء منذ اليوم الأول وحتى العاشر منه.
تتسم الأيام العشرة من شهر محرم بصور خاصة مطبوعة في أذهاننا منذ نعومة أظفارنا، نستحضرها مع بداية هلاله ونعيشها بكل شوق ولهفة، نجدد فيها طاقاتنا وولاءنا للحسين وأهل بيته عليهم السلام.
يعد الحزن الذي يخيم على النفوس لهذه الذكرى الأليمة هذه الأيام واحدا من الصور التي تتوق لها الأرواح ففي الحزن تفريغ للطاقات السلبية المتجمعة في داخل الجسم والعقل والروح، وكما يقول علماء النفس بأن الحزن هو أحد المشاعر المفيدة للإنسان ونحتاج إليه من أجل توازننا النفسي مثل المشاعر الإيجابية كالسعادة.
فالحزن يعطي فرصة لنا بالتفكير في آلامنا وآمالنا معا وفي أمور كثيرة نحاول تقليبها في فترة الحزن، ونحاول أن نجد طريقة لإصلاحها أو نسعى إلى تغيرها، ومن جملة تلك الأمور التي تحتاج إلى الإصلاح هي علاقتنا بالله تعالى وعلاقتنا بالنبي وأهل بيته عليهم السلام وبالتعاليم الربانية التي تأتينا من خلالهم ونحن في غفلة عنها وفي حالة شرود منها في ظل السعي الحثيث وراء العمل ومنجزات الحياة الأخرى.
هذا الشعور المحزن الذي نعيشه في أيام الحسين عليه السلام نتوق إليه ونريده بقوة، فكم من عبرة متكسرة داخل المحاجر تريد أن تنساب على الخدين، وكم من هموم متجمعة داخل القلوب تريد أن تتنفس فتخرج مع زفرات الأنين، نعم الحزن والمصيبة لذكرى الحسين عليه السلام وليس لغير ذلك، ولكن بالألم الذي نشعر به من أجل مصيبة الحسين عليه السلام وأهل بيته قد تخرج معه الكثير من الآلام والأحزان خاصتنا.
ومن صور هذه الأيام أيضا والتي تتسم بشذا خاص هو: توشح البيوت والحسينيات والمساجد التي تقام فيها قراءة المصيبة والذكرى الأليمة، بالسواد المنقوش بالعبارات الحماسية والجمل الأدبية والآيات الحكيمة والتي غرست في نفوس الكثيرين منا قيم ومبادئ عاشت وتربت معنا منذ صغرنا حتى كبرنا، نعي أهدافها ونفهم مضمونها.
اللافتات السوداء والتي تحمل شعارات وعبارات كثيرة منها “لبيك يا حسين، أبد والله ما ننسى حسيناه، كذب الموت فالحسين مخلدا، الحسين سفينة النجاة، لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وغيرها الكثير، تبعث في القلوب هيبة وتحدث في الأبدان قشعريرة، إذ تعد رؤيتها إيذانا ببدء موسم ذكرى استشهاد الحسين وأهل بيتهم صلوات الله عليهم، فتلوح صور القتل والتنكيل بهم في واقعة كربلاء بالمخيلة مما يجعل القلوب تعتصر ألما، ذلك الألم الذي يدفعها لأن تشحذ به همم القوة بالاقتداء بما كانوا يعتقدونه والايمان بما دعوا إليه في سبيل الحق وتحت راية الإسلام.
تلك العبارات اعتادت أن تبحث عنها أعيننا بين الجدران في كل شهر محرم وتأنس لها قلوبنا وتستكين، وتشعر بطمأنينة الحب والوفاء والولاء.
ولا يفوتني أن أتحدث عن صورة لا تغيب عن أذهاننا لقوة حضورها وأصالة جذورها وتأثيرها الحسي علينا وهي صورة العزاء، نعم العزاء واللطم على الصدور فرادى أو ضمن المواكب، تلك الشعيرة التي لا تنفك قدسية عن قدسية إقامة ذكرى الحسين وأهل بيته فهما متزامنتين في القدسية والأثر، وهي في حد ذاتها محرك لبث الشجون واستراتيجيات الولاء، فلا نجد مأتما يقيم قراءة على الحسين دون أن يقيم عزاء لأجله، يقف الرادود ويصدح صوته بأبيات الرثاء فترتفع الأيدي لطما على الصدر من ألم الذكرى وتعبيرا صادقا على الحزن والمواساة.
تلك إنما بعض من الصور، التي تنعش ذاكرتنا بعبق جميل كلما مرت أيام “عاشوراء” وهي ليست الوحيدة التي تربطنا بالحسن عيه السلام وأهل بيته إنما هي بعض من كثير لو قلبنا في الصفحات لوجدنا صورا ارتسمت كالدستور كتبت أسطر تاريخنا ورسمت فيها ثقافة فريدة من نوعها، اختصصنا بها نحن الشيعة ومحبي الحسين واهل بيته من غير الشيعة. ولكل شذاه الخاص وهذا شيء من شذانا..