من قيم زيارة الأربعين
السيد فاضل آل درويش
موسم الزيارة الأربعينية لا يختلف في مقاصده والأهداف الموسومة منه في صناعة شخصية الفرد والمجتمع عن بقية العبادات المتميزة بالحضور الاجتماعي كمناسك الحج، ومن أهم القيم الإسلامية مبدأ المساواة وتذويب الفروقات الطبقية والعنصرية، لينصهر الجميع في بوتقة الإخوة وحقوقها ومبدأ الاحترام والمحبة والمساندة لمن احتاجها دون النظر إلى الخلفيات الثقافية أو الأعراف والعادات، إذ لا يخفى وجود بعض الحساسيات بين الأعراق بسبب وجود اختلافات في بعض الأفكار أو السلوكيات، فيقدم المرء على البرنامج العبادي ليتخلص من تلك الترسبات السلبية والخلفيات المسبقة، وتكتمل عنده الصورة بشكل جلي في مدى تكوين علاقاته بإخوته والانسجام معهم، من خلال العمل في ميدان واحد وهو التقرب إلى الله تعالى والتخلق بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، التي تقوم على الاحترام المتبادل وروح التواضع وحسن التعامل وأدب الحديث.
والزيارة الأربعينية للإمام الحسين (ع) خطوات تسير وفق الغايات الإلهية في صياغة الشخصية الإيمانية من جميع جوانبها وأبعادها، وحديثنا يتركز حول مفهوم المساواة وصهر الزائرين في بوتقة واحدة قوامها الأخوة والمحبة و التفاني والعطاء، فكما أن الإمام الحسين (ع) جمع من حوله شخصيات رسالية قوية من مختلف الأمصار والتوجهات لتتوحد تحت راية نصرة القيم الإسلامية وحامل راية الحق، فذابت الفروقات وانماثت الاختلافات والتباينات بينهم بعد أن أصبحوا يدًا واحدة تستميت في سبيل الحق والهدى، وكذلك هذا ما نشاهده من تقاطر عشاق الحسين (ع) من كل فج عميق يوحدهم حب السبط الشهيد والقيم التي دعا إليها والروح الاستبسالية التي ضحت بكل شيء في سبيل البقاء بلباس الحرية والكرامة، رافضين الذل والهوان وحياة العبيد ممن باعوا ضمائرهم في سبيل مصالح دنيوية فانية، فأضحت الزيارة الأربعينية امتدادًا لذلك العطاء والروح الأخوية التي تغيب فيها التمايزات والتفرقة على أساس المناطق الجغرافية أو اللون، ولذا فإن زيارة الأربعين ومضة حضارية تحقق الازدهار والاستقرار والسلام في العلاقات البشرية، يشعر الفرد من خلالها بقيمته الحقيقية بخلاف الحضارات الزائفة التي يعد من صلبها التفرقة العنصرية، يغيب الشعور بالغربة والخوف عند الزائر وهو بين إخوته الذين يكنون له الحب والتقدير، فزائر الحسين له مكانته في قلوب المؤمنين الأخيار فيهبون لتقديم ألوان المساعدة له وخدمته ويعتبرونها شرفًا، فالإمام الحسين هو من صاغ الإنسانية الكريمة بعيدًا عن أية تفرقات.
ويظهر جليًّا ما يكنه خدمة الإمام الحسين من حب وإعظام لزوار الإمام الحسين (ع) من خلال تلك السرادقات والمضائف التي بذل فيها أماكن الاستراحة والطعام للزوار، وهذه البذلة والعطاء تعتق الإنسان من ربقة الأنانية والشح وتدفعه في طريق الإنفاق ليتحول إلى سلوك مستدام اكتسبه من تلك الخدمة، كما أن روح التواضع والخدمة للزوار تدفع عنه أنفة التكبر والنرجسية والنظر للآخرين كأقزام، إذ يندفع الطبيب والمهندس والوجيه ومحدود الدخل ومختلف طبقات المجتمع لتحصيل هذه الموهبة الإلهية وهي خدمة زوار أبي الأحرار، وتلك الأحاديث التي تدور بين مختلف الزوار والخدمة تصنع الألفة والتقارب بين الجميع على اختلاف مناطقهم وألسنتهم.
هذه الظاهرة الاجتماعية تستحق أن يسلط عليها الإعلام الضوء لتبيين ماهيتها وأهدافها والسر في اندفاع الجميع وتحمل المتاعب ووعثاء السفر في سبيل هدف تجديد العهد والولاء مع التضحيات والإيثار الحسيني، ومن كان معه ممن بذلوا مهجهم وأغلى ما يملكون في سبيل الحق والقيم، إنها ظاهرة تستحق كل آيات الثناء والإجلال لكل من ساهم في تجديدها واستمرارها، وخصوصًا إذا ما تحولت إلى سلوك مستدام في طريق التطوع والخدمة عندما يرجع كل واحد إلى بلده، فيعمل تحت مظلة التكاتف والتكافل الاجتماعي للمساهمة في رفع وطأة الحاجة الثقيلة عن قلوب الفقراء، كما يعملون تحت راية الإمام الحسين في تذويب الخلافات المصطنعة وإشاعة روح التسامح والحب التي عاشوا تحت ظلالها خلال الزيارة الأربعينية.