غابة من حزن تتنفس
عبدالباري الدخيل
“كان لابد من لقاء أخير
ليسترد كلٌ منا.. قلبه من الآخر”
إنصاف سويدان
فتح الباب ودخل بخطوات متقاربة، وقف متوسطًا المقهى وأخذ يتلفت يبحث عن طاولة فارغة.
لم يكن المقهى كبيرًا، إنما متوسط نسبيًا، مكون من دورين، يتوسطه درج حلزوني، تتوزع الكراسي على الجانبين الشمالي والغربي، وطاولة وحيدة في جهة الشرق قريبة من الباب، أول المدخل جهة الجنوب مكان إعداد الشاي وثلاجة عرض الكعك، والمخبوزات تعرض في صندوق زجاجي.
جلس وحيدًا.. وضع العامل أمامه كأس الشاي المنعنع المعتاد..
دقائق وإذا بنورها يشرق كأنها شمس الشتاء الدافئة، تستقبلها النفوس وتهمس لها الأرواح مرحبة.
استقبلها بشوق، أمسك بيدها كأنه يمسك بفرصة تحاول الفرار.
– سيدتي.. اشتقت لك كثيرًا.
– أشتاق لك رغم جدران الصمت، وسهام النسيان المتكسرة في صدر أيامي.
همس: تذكرني بك كل زوايا الحياة، الأفلام، المسلسلات، الموسيقى.
– أنت تعلم بالظروف، حريتك اجتماعيًا أكثر اتساعًا من حريتي، فخروجي يلزم سيناريو متقن.
– الحرية المطلقة تقابلها مسؤولية مطلقة عن كل فعل في إطارها. كما يقول الدكتور توفيق السيف.
– لا مطلقة ولا مقيدة.. نحن عبيد للتقاليد والأعراف.
قاطعها وكأنه تذكر شيئًا: هل تذكرين حوارنا حول الحرية؟
أجابت: نعم؛ يوم أحصينا أن لها أكثر من مئتي تعريف؟
واصلَ: وتحدثنا عن الفيلسوف (أيزايا برلين) ومقالته المسماة «مفهومان للحرية»..
ومقولته إن: العدد الضخم من التعريفات يعني ببساطة أن الذي أمامنا ليس موضوعًا واحدًا، وإن اتحد في الاسم.
– أتذكر أننا يوم ذاك تحدثنا عن تصنيفه للحرية إلى نوعين، سلبية وإيجابية.
قالا بصوت واحد: الحرية في المعنى السلبي تعادل عدم تدخل الآخرين اعتباطيًا في حياتنا، ويعبر عنها بـ«الحرية من».
وأكملت: أما الحرية في المعنى
الإيجابي فتعادل قدرتنا على فعل شيء يتطلب بشكل مباشر أو غير مباشر موافقة الآخرين، ويعبر عنها بـ«الحرية في».
وهذا ما أعاني منه يا حبيبي.
– ألهذا كنت تصرين على عبارة: “القانون هو الذي يصون الحريات الطبيعية”؟
قالت بحزن متدفّق: ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ
وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ.
كان يشك في أن حُزن الحبيب مُعدٍ، لكنه اليوم تيقّن، فقد مسه الوجع أضعاف ما مسها، لذا حاول تغيير بوصلة الحديث، وتحدث موجهًا الكلام لها بهدوء: “أعاني من غيابك ما أعاني
فَجِد لي ياشبيهَ الوردِ حَلّا”.
هنا نظرت إليه وكأنها لا تراه، فقد تحول إلى شبح في عينيها، تجولت عيناها من خلال الفراغ لا أعلم ما الذي تبحث عنه.
ونظر لها وكأنه ينظر لصورة معلقة على حائط، تجاهد بروحها للبقاء، وتتسلق الأيام باحثة عن غدها: أخذ يتأمل في تفاصيلها، أين وجهها الناصع المدور، وعيناها الواسعتان السوداوان اللتان تفيضان نورًا وبهاءً، أين صوتها العذب؟
نظرت إليه كأنها اكتشفت وجوده للتو وسألته: “تحبني”؟
وتعتقد أنك أنتصرت.. فتهزمُك “كلمة”، ماذا سيخبرها وهي تعلم عمق حبه لها؟
أجابها بهدوء: يا سيدتي “أعجز عن التعبير بحبي لكِ..
لذا لا تسأليني: هل تحبني؟”
أحس أنها على وشك الانفجار وأن دموعها ستتسلل لتكون سيلًا هادرًا، اقترب منها، وضع يدها بين يديه، لم تتحرك، ألصق كتفه بكتفها، أحاطها بذراعيه، صدق تنبؤه، انهمرت دموعها كنهر متدفق، أو فيضان في أرض خديها المصفرّين.
ترك لها حرية البكاء واكتفى بعناق عميق، وضع رأسها على صدره وترك لدموعها حرية أن تبلل قميصه، وقد أمسكت بكلتا يديها عضديه بقوة حتى انغرست أظافرها في لحمه.
دقائق ثم توقفت عن البكاء، ومسحت بمنديلها دموعها، وتوجهت إلى مغسلة هناك وغسلت وجهها، وعادت كأنّ وجهها فلقة قمر.
قالت معتذرة: حبيبي لقد كانت روحي مثقلة والحمد لله تخلصت من شيء مؤلم.. ثم وهي تمسك بيده: thanks my love.
أراد أن يسألها عن سبب حزنها، فأوقفته بإشارة من يدها، وعندما عاد للحديث وضعت يدها على فمه، ثم أمسكت حقيبتها وحشت بطنها بجوالها والمنديل، وقالت: جئت لكي أودعك، وحزني لفراقك يطول.
واستدارت وقد سرق القط لسانه وشلّت المفاجأت أطرافه، فأكملت: آسفة يا حبيبي، لابد أن أغادر.
انطفأت الأنوار من حوله، وغادرت الأصوات، وحل مكانها صمت المقابر، وافترش الحزن قلبه وبدأ يشعل نارًا بين أضلاعه، فالحزن شبح ضخم، يطوف داخل أزقة العمر الضيقة ويعبث بكل شيء جميل.
أغمض عينيه لكي لا يراها تغادر حياته، وعندما فتحهما تلفت قلبه ثم تلفتت عيناه، فاكتشف أن المكان مختلف، سأل: أين أنا؟
أجابته الممرضة التي كانت تراقب الأجهزة من حوله: أنت في المستشفى.
وأكملت أخته: الحمد لله على السلامة يا أخي، قلقنا عليك كثيرًا.
همس: أين أم فاطمة؟
مسحت على رأسه وهي تقول: لا بأس عليك يا أخي.. لقد توفيت أم فاطمة منذ خمسة أشهر، اصبر يا أخي فإن الله مع الصابرين.
يصمت فتسأله: ما بك؟
– أحتاج إلى أبجدية جديدة لقراءة أوراق غيابها، وعمر نوح لأستوعب مرارة رحيلها.