أقلام

في الأفق الثقافي الجديد

محمد محفوظ

من الطبيعي القول : أن التحولات  والتطورات  المتلاحقة التي تجري  في مجالنا العربي والإسلامي ، تستدعي  منا قراءتها بعمق ، حتى يتسنى  لنا كفضاء  مجتمعي  ، من الاستفادة  القصوى  من هذه التطورات  ، والحؤول دون خضوعنا  السلبي لمسيرة  هذه التحولات .

وهذا يتطلب  منا بطبيعة  الحال  ، استدعاء  القيم  الثقافية  القادرة  على سبر جوهر  هذه التحولات  والمعرفة العميقة  بطبيعة هذه التطورات  واتجاهاتها  الراهنة  والمستقبلية .

فالأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية لها قاعدة وجذور  معرفية  وفلسفية  وثقافية  ، ولا يمكن  صياغة  موقف  أو رؤية  متكاملة تجاه هذه  الأحداث  والتحولات ، بدون معرفة  الجذور الثقافية  والمعرفية  لهذه الأحداث والتحولات .

من هنا  فإن ما تمر به المنطقة  من تحولات وتطورات  ، بحاجة  إلى رؤية  شمولية  تتضمن الأبعاد  الثقافية  والسياسية  والاقتصادية  والمجتمعية  ، حتى تتوفر  لنا الإمكانية  المناسبة لقراءة هذه التطورات  وصياغة الرؤية الجمعية تجاهها.. فهذه التحولات تحمل في أحشائها  الثقافي والسياسي  والحضاري  ، ولا يمكن إدراكها  ووعي اتجاهاتها بعمق  بدون الرؤية  المركبة  والشاملة  ، والتي تتعاطى  مع هذه التحولات  برؤية متكاملة  ، لا تلغي  السياسي  كما أنها  لا تختزل  الثقافي ، وإنما رؤية تحتضن  متطلباتهما معا  ، وتسعى من الإفادة  من معاييرهما  وضوابطهما  المنهجية  وآفاقهما المجتمعية .

وعلى ضوء هذا تتأكد الحاجة  في مجالنا العربي والإسلامي  إلى إعادة  الاعتبار  إلى العقل  ، وذلك لأنه لا يمكن  أن نستجيب  استجابة حقيقية  لهذه التحولات والتطورات  ، من دون إعادة الاعتبار إلى المكاسب  الإنسانية  السياسية  والاجتماعية  والاقتصادية .  وهذا الاعتبار  لا يتحقق  بدون تأكيد  مرجعية  العقل  ، الذي يتجه إلى استيعاب  كل منجزات  الإنسان  عبر التاريخ  ، ويسعى  نحو تأكيد  تلك الإجراءات  والأطر التي استطاعت  أن تحقق الاستقرار  والسلم المجتمعي  للكثير من الأمم  والشعوب  .

فالمجال  الإسلامي  اليوم ، يمر بظروف تاريخية حساسة  ، حيث الأحداث تتوالى  ، والتطورات  والتحولات  زاحفة في اتجاهات  عديدة  ، وخياراتنا نحن كعرب ومسلمين  تجاهها محدودة  .   وفي تقديرنا أن حجر الأساس  في بلورة الرؤية والخيار  تجاه هذه  التطورات والتحولات ، هو إعادة  الاعتبار إلى العقل  الذي يعني الآتي :

القبول والتفاعل  مع مكاسب الإنسان  الحضارية  ، والعمل  الحقيقي  والجاد على تبيئة هذه المكاسب  والمنجزات  ، وذلك  من أجل  تطوير  حياتنا  السياسية  والاجتماعية بما ينسجم  ومقتضيات  ذاتنا  الثقافية  والحضارية  وتحولات الراهن .

إذا كانت السمة الجوهرية في تجربة الأنوار الأوروبية  ، تتجلى في نزعة  تمجيد العقل  واعتماده  مرجعية  وحيدة  لشئون الفكر  والعالم .  فإن اجتراح مشروع رؤية وإستراتيجية عربية وإسلامية  ، هو شأن لا يمكن  تصور حدوثه دون ركيزة أساسية  لقيامه  تتمثل  بإعادة الاعتبار  لمكانة العقل  .

فالمطلوب هو إعادة الاعتبار للعقل وليس اكتشافه .  فنحن  أتباع دين ( كما يقرر أحد المفكرين )  يحتم الالتزام  بمرجعية العقل  وسيادته ومعطياته  إلى الدرجة  التي  يتقدم  العقل  فيها على الدين  .    فالدين لا يعُرف إلا بالعقل ولكن العقل  لا يعرف بواسطة الدين .  فإعادة  الاعتبار  إلى العقل ،  لا تعني  استنساخ  التجربة الأوروبية ، وإنما  تأتي في سياق إسلامي يتجه إلى إزالة  ركام التخلف  والانحطاط  ، ويعمل  جاهدا  صوب  تأسيس  قيم الإنسان  وحقوقه  في الفضاء المجتمعي  للمسلمين .

إن السائد الثقافي والفكري ، هو الذي أوصل  العرب  والمسلمين  بشكل أو بآخر  إلى ما هم عليه .  لذلك  فإن  الخضوع  للسائد  الثقافي  والتعامل معه  باعتباره  مقدسا  ، لا يمكن  تطويره  وتغييره  ، هو الذي  يزيد  من تدهور  أوضاعنا  وأحوالنا . لذلك  فإن إعادة  الاعتبار  إلى العقل  ، يعني  فيما يعني  العمل  على تحريك  المياه  الراكدة  ، والعمل  على تطوير  أوضاعنا  الثقافية  والمجتمعية  ، حتى تتوفر  كل الظروف  والعوامل  المفضية إلى الانخراط  النوعي  في مشروع التحولات  الراهنة .

وهنا نصل إلى حقيقة  أساسية ، ينبغي  إدراكها  بعمق في مجالنا العربي والإسلامي  ، وهي : أن كل محاولة  أو جهد أو مشروع  يستهدف  التغيير والتجديد  في الاجتماع الإسلامي  ، يأتي  من خارج الإمكانات  التي يختزنها  النص  الديني  سوف تفشل  ، وبطريق أولى  فإن الفشل  سيكون  نصيبها  إذا جاءت  من موقع العداء  للدين والتناقض معه .

من هنا فإن إعادة الاعتبار للعقل، لا تعني ممارسة  حالة  القطيعة  أو العداء  مع قيم  الدين ومتطلباته  والعقلية والإيمانية  . وإنما على العكس  من ذلك تماما . حيث أن تأكيد مرجعية العقل, هي من أجل  العودة الواعية إلى النص الديني  لإستنطاقه  وتوليد  إمكاناته  المختزنة  .

وعلى هدى هذا نستطيع القول :  إننا  في هذه اللحظة  التاريخية  أحوج ما نكون  إلى إعادة  الاعتبار  للعقل  الذي يأتي  في مواجهة  الخرافة  بكل أشكالها وصورها  ، كما في مواجهة  أبعاد  التقديس للمألوف  والسائد  المكتسبة  من اعتبارات  تاريخية  واجتماعية  .    وإن تحولات المنطقة

المتعددة  ، تدفعنا إلى ضرورة  الانخراط  السريع  في مشروع التغيير والتجديد  ، ومحاربة  كل أشكال الخرافة  والاستقالة من المسئولية ، والهروب  إلى دهاليز  الأسطورة  والقصص العجائبية .

إننا لا يمكن أن نتطور ونستفيد الاستفادة القصوى من تطورات اللحظة الراهنة ، بدون  تأكيد مرجعية  العقل ، التي تطرد  من واقعنا  كل أشكال  الهروب والانزواء  ، وتدفعنا  بحكمة  وبصيرة  إلى الأخذ بعالم الأسباب  في كل شئون حياتنا .

فالإنسان فردا و جماعة عبر التاريخ ، لا ينشد  وينجذب إلا إلى معالم النور  والفكر والحياة .  وإن توقف العطاء العلمي بكل مجالاته  في الواقعين العربي والإسلامي  ، هو الذي  أدخلنا  في الظلام وجعلنا نعيش  القهقري ، ونبحث بلهفة  عن كل نقطة ضوء  بصرف النظر عن مصدرها  وطبيعتها .

وإن إعادة الاعتبار إلى العقل في المجال الإسلامي ، يعني  العمل  على إعادة  الالتزام  بمهمتنا  التاريخية  والحضارية ( إخراج الناس من الظلمات إلى النور ) وهذا لا يتأتى  بالدعوة  المجردة  ، وإنما بالعمل على تطوير  واقعنا  وتأكيد حقائق  العقل في مجالنا  ، حتى  نتجاوز  السائد  ، ونوقف  حالة الانحدار  ، ونبدأ بإرادة صلبة  ، وعزيمة  راسخة  ، لربط راهننا  بلحظات التاريخ  المجيدة  ، ومكاسب  الإنسان  المعاصرة  ، وذلك  ليس من أجل  الانبهار  أو الركون  إلى التقاعس  والدعة ، وإنما من أجل  الإضافة  النوعية .

لهـذا نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد في مسائل العقيدة والحياة على العقل  والفكر والبصيرة .

وفي المنظور القرآني  ( العقل ) يساوي  الانسجام  مع الفطرة  في إدراك  القوانين  العامة  والمواقف  السلمية  في إطار العلاقة  مع الموجودات .  لذا فإنه يكون في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التدبر في المخلوقات، لإدراك وجود الله تعالى، كما يوجد في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التأمل  في مصير المنحرفين .

فالأفق  الثقافي  القادر على التعامل  مع تحولات  وتطورات  الراهن  ، هو ذلك الأفق الذي  يستند في رؤيته  وتصوره  للأمور  على نسبية  الحقيقة  ، وإنه لا يمتلك  أحد  القدرة على امتلاك  الحقيقة  المطلقة ، وإنما  الجميع على حد سواء  في التعامل  مع النصوص  والقيم الدينية  ، وتتفاوت  حظوظهم  في تمثل  وتجسيد  هذه القيم  . فتتأسس من جراء هذه الرؤية والعقلية  ، موجبات  الحوار والتسامح  ، وتتأكد  قيم الانفتاح  والتواصل  ، وتزول  كل دواعي  الإقصاء والنفي  والإدعاء  بإمتلاك الحقيقة .

وعلى هذا فإن الأفق الثقافي القادر على التفاعل مع تحولات المنطقة  ، هو ذلك  الأفق  الذي  يحتضن  قيم الحوار  والتسامح  والانفتاح  والتواصل والقبول بالآخر .   وإن مهمتنا الثقافية والفكرية في هذه اللحظة  التاريخية  ، تتجسد  في تظهير  هذه القيم  وإبرازها  ، وتعميق متطلباتها  في الفضاء الاجتماعي  والسياسي العربي والإسلامي .

وإن غياب هذه القيم  ، من واقعنا  المجتمعي ، هو أحد  المسؤولين الرئيسيين عن تكلس أحوالنا  ، وتراجع  مسيرتنا  ، وتقهقر  أوضاعنا  . وإن استمرار هذا الغياب  سيكلفنا  جميعا الكثير  من الخسائر والكوارث الاجتماعية والسياسية  .. وإن بوصلة التحولات  تتجه صوب  تأكيد  هذه القيم  والحقائق  في الحياة العامة  ، وإن  أي تراخي أو تردد  في هذا السبيل ، سيفاقم  من المشكلات  ويعلي من شأن  التوترات  ، ولا يوفر  الأرضية والمناخ المناسب للتفاعل  الخلاق والمطلوب  مع هذه التطورات  والتحولات .

وإننا في المجالين العربي والإسلامي ، أحوج  ما نكون  اليوم  إلى تلك  القيم  التي تضبط نزاعاتنا ، وتنظم  اختلافاتنا ، ويحشد كل الإمكانات  والقدرات  صوب صيانة  حقوق الإنسان  ، والإعلاء من شأن الجوامع المشتركة  ، تلك  الجوامع التي  تؤكد على البعد الإنساني  مع الاحترام  التام بكل الخصوصيات  الثقافية والنفسية .

وإن المجتمع ( أي المجتمع ) ، لا يمكن أن يتقدم ويصل إلى مرحلة إنجاز التطلع وتحقيق الطموح ، إذا لم يؤسس في كيانه العوامل الذاتية التي تجعله يباشر عملية الإنجاز بنفسه . ففقه الواقع ، هو الوجه الثاني لحيوية الأفكار وفاعليتها في المحيط الاجتماعي ، فحيوية الأفكار لا تقاس بعيدا عن الواقع وملابساته ، وإنما تقاس بالإمكانية الفعلية لتفاعل هذه الأفكار مع الواقع . والتفاعل هنا لا يعني إخضاع الأفكار للواقع ، أو تسويغ الواقع ، وإنما يعني بعد هذه الأفكار عن الأفق التجريدي ، الذي يفصل الفكرة عن محيطها ، ويجعلها وكأنها فكرة لا صلة لها بأي شكل من الأشكال مع الواقع والظرف العام . والصلة التي نراها ضرورية بين الأفكار والواقع ، هي الصلة التي تجعل الأفكار بمثابة الجسر ، الذي ينقل الواقع من حالة إلى أخرى أفضل . والصلة هنا تباشر دورا مزدوجا أو ثنائيا ، فالواقع يثري الأفكار بخبرات الإنسان وتراكم تجربته ، كما أن الأفكار توجه الواقع ، وتسعى نحو تقويمه بما يتناغم والمثل العليا لهذه الأفكار .

فالصلة بين الواقع والأفكار ، صلة تفاعلية ، بحيث ينفتح الفكر على متطلبات الواقع ، دون انزواء أو استعلاء ، كما أن الواقع بثرائه وتنوعه الهائل يستنير بأطروحات الفكر وآفاقه الإنسانية . ولكي نحقق هذه الصلة والعلاقة الخلاقة ، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1ـ أن الثقافة الخلاقة ، لا تنمو في الأبراج العاجية ، والاستعلاء على هموم المحيط وتحديات الواقع ، وإنما تنمو في إطار التفاعل مع الهموم الحضارية والاستجابة الواعية على التحديات الكبرى . لذلك فإن فقه الواقع ، وإدراك عناصره وقضاياه ، يعد وسيلة أساسية لنمو الثقافة الخلاقة ، في حياة الإنسان الفرد والمجتمع . والجهد الذي يبذل في هذا السبيل ، لا يعد مضيعة للوقت أو اهتمام في غير محله ، وإنما هو من صميم العمل ، ويقف على رأس أولويات الإنسان الذي يتطلع إلى صنع مستقبله بيديه .

2ـ إن معرفة الواقع ، ليس قرارا يتخذ أو كلمة تقال ، وإنما هي  متابعة واعية لخريطة الواقع وقراءة مستديمة لأحداثه . لأن الواقع في صيرورة دائمة ، والتوقف عن فهمه ومعرفته ، بدعوى المعرفة السابقة ، لا يؤدي إلى فقه الواقع ، وإنما يؤدي إلى إسقاط فهم مسبق على الواقع . لذا فإن فقه الواقع ، يتطلب دائما اليقظة الدائمة ، لإدراك حركة الواقع ، واكتشاف تجاه سيره .

وإن الموازنة بين المثال والممكن ، لا يعني غياب المبادرات المجتمعية وعدم اغتنام الفرص التي تقرب المجتمع من طموحه وتطلعه ، وإنما هي قدرة نفسية ، تتجسد في إرادة وتصميم وتخطيط يتجه إلى تحقيق الانسجام المطلوب بين الواقع والمفروض ، وهذه صفة حضارية ، إذ يتمكن المجتمع من خلالها ، من تجاوز عثرات الطريق وسيئات الرهن ، ويستطيع من خلالها أن يهضم إيجابيات الجديد . فمن الأهمية بمكان ، أن يتوجه العرب اليوم ، إلى فض الاشتباك بين الممكن والواجب ، والعمل على تحقيق الممكن من الأمور . والاعتقاد بأن إنجاز الممكن ، ليس نهاية الطريق ، وإنما هو خطوة تقربنا زمانا ومكانا من الوصول إلى التطلع البعيد .

من هنا قيل أن قطع الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة ، كما أن البحر عبارة عن قطرات تتجمع مع غيرها من القطرات فتحقق بحرا عظيما . فالمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه وتطلعاته ، بالقيم والمبادئ بوحدها ، وإنما من الضروري إبداع الخطط المرحلية من تلك المبادئ ، وبما ينسجم وظروف ( الواقع واللحظة الراهنة ) . وإن المجتمع الذي يعجز عن توليد البرامج والخطط المرحلية واستنباتها في السياق الاجتماعي الطبيعي ، لن يتمكن من تحقيق تطلعه والوصول إلى مطامحه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى