السياحة في 2023 .. تراجع أوروبا الشرقية وازدهار في السعودية والصين مفتاح الانتعاش
بشائر: الدمام
في كثير من الأحيان، يصعب وضع تعريف محدد لصناعة السياحة، وبخلاف كثير من الصناعات الأخرى لا يوجد منتج واحد واضح في تلك الصناعة، إذ تضم مجموعة من الصناعات المختلفة، فالطيران والنقل البري والإقامة والتجول بين المعالم السياحية المختلفة، وشركات السفر والمطاعم ومحال بيع التذكارات السياحية وغيرها من الأنشطة تدخل جميعها ضمن المفهوم الواسع لصناعة السياحة.
مع هذا يتم تعريف السياحة عادة على أنها سفر شخص أو مجموعة من الأشخاص والإقامة في مكان خارج بيئتهم المعتادة لمدة تقل عن عام بهدف الترفيه أو البحث عن علاج أو لأسباب أخرى.
خلال العقود الثلاثة الماضية، انتعش القطاع السياحي على المستوى العالمي، لكن جائحة كورونا مثلت – ولا شك – لحظة انتكاسة عنيفة للقطاع وتطوره، وأرجعته إلى الخلف كثيرا، مع هذا فإن الربحية المحققة في هذه الصناعة، تجعل لدى عديد من البلدان حوافز حقيقية للاستثمار في السياسات التي تتيح تطوير السفر والسياحة.
تلك الجاذبية التي يمثلها القطاع السياحي اقتصاديا، لا تنفي أن التوقعات بشأن قدرة المشهد السياحي العالمي على الانتعاش هذا العام والعودة إلى ما كان عليه قبل جائحة كورونا لا يزال أمرا جدليا. فمجموعة متناقضة من العوامل تؤثر في المشهد السياحي في عامنا هذا.
الحرب الروسية – الأوكرانية لم تضع أوزارها ولا يلوح في الأفق ما ينبئ بذلك، ولهذا انعكاسات اقتصادية سلبية على الجاريين المتقاتلين، ومن ثم احتمال تقلص أعداد السياح القادمين من البلدين وتراجع قدرتهم المادية، وهو أمر مرجح للغاية. وإذا أخذنا في الحسبان أن السائحين الروس والأوكرانيين محرك رئيس للقطاع السياحي في عديد من بلدان منطقة شرق البحر المتوسط، فإننا يمكن أن ندرك التأثير السلبي للحرب في القطاع السياحي في عدد من الوجهات السياحية العالمية.
على الجانب الآخر، تفتح الصين أبوابها وتتخلى عن سياسة صفر كوفيد، ما ينبئ عن إمكانية عودة السائحين الصينيين إلى المسرح العالمي وإنعاش سوق السياحة الدولية، في الوقت ذاته يحتمل أن يعصف الركود بالاقتصاد العالمي، وسيكون هذا شديد التأثير في أسواق السياحة في العالم، لكن قوة الدولار المتنامية ترجح إمكانية أن يكون السائح الأمريكي لاعبا رئيسا في سوق السياحة الدولية هذا العام.
إذن، مجموعة متنوعة ومتضاربة من العوامل ستترك بصماتها على السوق السياحية الدولية في 2023، في هذا السياق استطلعت “الاقتصادية” آراء ثلة من الخبراء في المجال السياحي لرسم صورة للمشهد السياحي الدولي ونتائجه المحتملة.
ألكس دين الرئيس التنفيذي السابق في منظمة السياحة العالمية يبدو متفائلا بشأن المسار العام للساحة الدولية هذا العام دون أن يستبعد إمكانية حدوث بعض الاضطرابات.
ويؤكد لـ”الاقتصادية” أنه خلال العام الماضي زاد إنفاق السياحة الوافدة أي من الزائرين العابرين للقارات والأقاليم 112 في المائة مقارنة بعام 2021، وذلك على الرغم من التضخم الذي ضرب الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من 2022، ويظهر إنفاق السائحين لكل رحلة زيادة 13 في المائة بأسعار 2022، بمتوسط يبلغ 1331 دولارا لكل سائح في جميع أنحاء العالم.
وحول 2023، يتوقع الباحث ألكس دين أن يتجاوز إجمالي الإنفاق السياحي 1.4 تريليون دولار على المستوى الدولي، مع ارتفاع في عدد السياح الوافدين على الصعيد العالمي 30 في المائة.
ويقول “الانكماش الاقتصادي والعقوبات المفروضة على روسيا من العوامل التي ستؤثر في الصناعة، حيث من المرجح أن تكافح الفنادق والمطاعم والمطارات للتعامل مع نقص العمالة ومتطلبات الأجور وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، لكن شركات الطيران الدولية ستحقق أرباحا ملحوظة هذا العام مستفيدة من زيادة أعداد المسافرين، وذلك بعد عامين من الخسائر المتتالية، إذ توقع اتحاد النقل الجوي الدولي أن تعاني شركات الطيران مجتمعة صافي خسائر يبلغ 9.7 مليار دولار أمريكي في 2022، مقابل 180 مليار دولار أمريكي في 2020-2021″.
من جهتها، تشير الدكتورة أورلا ليو أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة بريستول إلى أن أغلب التقديرات ترجح أن يبلغ عدد السياح الوافدين على مستوى العالم نحو 1.6 مليار سائح، وهذا العدد أقل من نظيره 2019 أي قبل جائحة كورونا، الذي بلغ 1.8 مليار سائح.
وتقول لـ”الاقتصادية”: “إن المسار السياحي سيختلف بالطبع من منطقة لأخرى، وتشير تقارير دولية إلى أن بعض أجزاء منطقة الشرق الأوسط ستشهد انتعاشا سياحيا واضحا، وتحديدا السعودية التي بات لديها بنية تحتية مادية وثقافية جاذبة للسياحة. وبصفة عامة، شهد الشرق الأوسط انتعاشا سياحيا قويا للغاية في 2022، إذ ارتفع عدد السائحين الوافدين 287 في المائة على أساس سنوي في الفترة من كانون الثاني (يناير) إلى تموز (يوليو) 2022، ما جعلهم يقتربون من مستوى 2019”.
وتضيف “أما السعودية التي شهدت استئنافا لموسم الحج، فإن لديها خططا كبيرة خاصة لقطاع السياحة في إطار رؤية المملكة 2030، ويشمل ذلك تنمية منطقة البحر الأحمر وتشييد عدد من الفنادق الدولية في جزر مختلفة، بينما الأمر سيختلف بالنسبة لأوروبا الشرقية التي لن تعود إلى المستويات السابقة لجائحة كورونا حتى 2025 بسبب تأثير الحرب الأوكرانية”.
مع هذا، يرى البعض أن العامل الأكثر تأثيرا في مسار السياحة الدولية هذا العام ستكون الصين وعودة السائحين الصينيين إلى مسرح السياحة العالمية.
لورين فيليب الرئيس التنفيذي السابق في مؤسسة “زوروا بريطانيا” تشير إلى أنه في الأعوام التي سبقت كوفيد كانت الصين أهم مصدر للمسافرين الدوليين في العالم، حيث أنفق السائحون الصينيون البالغ عددهم 155 مليون سائح أكثر من 250 مليار دولار خارج حدودهم في 2019، إلا أن هذا السخاء انخفض بشكل كبير في الأعوام التالية بسبب إغلاق البلاد لحدودها، والآن مع فتح الصين لحدودها مجددا والتخلي عن سياسية صفر كوفيد، فإن ملايين السائحين الصينيين يستعدون لجولات سياحية خارجية، ومعهم ينتعش الأمل باسترداد السياحة الدولية عافيتها المفقودة مرة أخرى.
وتؤكد لـ”الاقتصادية” أن أفضل الوجهات السياحية بالنسبة للصينيين تقع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتحديدا أستراليا وتايلند واليابان وهونج كونج كما صنفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضمن أفضل مناطق الجذب السياحي بالنسبة للصينيين.
وتبرر لورين فيليب هذا الانتعاش الصيني في مجال السياحة بالقول “ارتفعت حجوزات السفر خلال عطلة رأس السنة القمرية الجديدة، التي تقع بين 21 -27 يناير 540 في المائة نتيجة تراكم الودائع المصرفية لدى الأسر الصينية في الأعوام الماضية بسبب عمليات الإغلاق المتكررة، ما يوجد لديهم ما يمكن أن نسميه الإنفاق الانتقامي”.
وتضيف “القطاع السياحي في أوروبا يعرف أهمية السائح الصيني، ولذلك نجد حاليا صراعا بين المسؤولين عن شركات الطيران والمطارات وشركات السياحة وكبريات الفنادق التي تقف متحدة في مواجهة السياسيين والمسؤولين عن القطاع الصحي في الاتحاد الأوروبي الذين يوصون بإجراء فحوص طبية للسائح الصيني قبل أن تطأ قدمه الأراضي الأوروبية للتأكد من عدم إصابته بكوفيد”.
لكن الدور الذي سيلعبه السائح الصيني في خريطة السياحة الدولية هذا العام، لا يتناقض من وجهة نظر تيدي فينلي الخبير في مجال السياحة البيئية من أن التغييرات المناخية قد تكون لها انعكاسات سلبية على حجم الانتعاش السياحي.
ويقول لـ”الاقتصادية”: “إن تغير المناخ بدأ في التأثير في بعض من الوجهات السياحية الرئيسة. فمنتجعات شهيرة للتزلج على الجليد تفتقر إلى الثلوج والمنتجعات الصيفية تأثرت بالجفاف وحرائق الغابات، وفي 2023 ستكون تلك التأثيرات أكثر وضوحا إذا استمرت الأحداث المتعلقة بالطقس في التفاقم”.
ويفيد تيدي فينلي بأن السياحة تتسبب فيما يراوح بين 5-8 في المائة من غازات الاحتباس الحراري، وقد يؤدي زيادة وعي المسافرين بالعواقب البيئية للسياحة إلى تغيير أنماطهم ووجهاتهم السياحية، ويشير في هذا السياق إلى دراسة لبنك الاستثمار الأوروبي تفيد بأن 37 في المائة من الصينيين و22 في المائة من الأوروبيين وذات النسبة من الأمريكيين أعربوا عن مخاوفهم بالسفر بالطيران نتيجة التغيير المناخي، لكنهم في الوقت ذاته أبدوا استعدادا لدفع أسعار أعلى للحصول على مزيد من الخيارات الصديقة للبيئة في جولتهم السياحية.
لكن مع الحديث عن استمرار الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومواصلة التضخم في ضرب مفاصل الاقتصاد العالمي على نطاق واسع، فإن احتمال حدوث ركود اقتصادي يظل مبعث قلق بالنسبة لكثير من الخبراء خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا، ولاشك أن الركود إن حدث، سيترك بصماته على قطاع السياحة العالمية، لكن النظر إلى تلك البصمات وتقييمها يختلف من خبير إلى آخر، إذ يرى البعض أن الرغبة في السفر والتجوال والخروج من شرنقة كوفيد ستكون أقوى من مخاطر عدم اليقين الاقتصادي، خاصة أن “الحجر المنزلي” خلال جائحة كوفيد سمح بتراكم المدخرات التي يمكن استخدامها في الوقت الراهن بغض النظر عن الوضع الاقتصادي.
مع هذا يعتقد الدكتور ماكس إلبي أستاذ التجارة الدولية أن الركود الاقتصاد – إن حدث – سيكون له انعكاسات متعددة على مسار السياحة الدولية.
ولـ”الاقتصادية” يعلق قائلا: “إذا صاحب الركود ارتفاعا ملحوظا في قيمة الدولار الأمريكي في مواجهة العملات الدولية الأخرى فيمكن أن نشاهد زيادة كبيرة في عدد السائحين الوافدين من الولايات المتحدة والدول التي ترتبط عملتها الوطنية بالدولار مثل منطقة الخليج، وحتى إذا لم يعوض ذلك التراجع في العدد الإجمالي للسائحين على المستوى العالمي، فإن القدرة الإنفاقية لتلك المجموعة من السائحين تعني أن العائد الدولي من النشاط السياحي سيكون مرتفعا حتى مع انخفاض أعداد السائحين الوافدين”.
لكن الدكتور إلبي يرى أن الاحتمال الأكثر واقعية أن يؤدي الركود الاقتصادي إلى تنقيح السائحين لخطط السفر بحيث لا تتقلص أعداد السائحين الوافدين بقدر ما يتعلق الأمر بإعادة اختيار الوجهات الأكثر ملاءمة للميزانية، على أن يبحث السائح عن وجهات ذات قيمة جيدة لقدراته المالية المحدودة، وأن يتكيف مع موضوع الركود بتقصير مدة الرحلة أو اختيار وجهات أرخص والاعتماد على مزيد من منصات المقارنة السعرية، أو تغير أوقات السفر إلى الأوقات التي لا تدخل ضمن أوقات الذروة.