من أجل شخصيتنا الثقافية
محمد محفوظ
تستهدف الحوارات الثقافية والفكرية ، خلق التراكم المعرفي ، والمشاركة في الرأي والفكرة ، والتواصل الإيجابي بين المهتمين بشئون الثقافة والأدب ، وصولا لبلورة الأفكار وإنضاجها ، وتقليبها على أوجهها المختلفة لتكاملها . وإن من أعمق المشكلات التي نواجهها كأمة ، هي المشكلة الثقافية ، التي تلقي بظلها على تفاصيل حياتنا ، والتي نرى جذورها في طريقة تفكير إنسان مجتمعنا وأمتنا ، وطبيعة شخصيته ، ونوعية طموحاته ، وعلاقته بالزمن . لذلك فإن استعادة شخصيتنا الثقافية والتي كانت ولا تزال حائرة وضائعة بين تيارات ومدارس فكرية مختلفة ، وتتآكل على صراعاتها ، من أوليات الفعل الثقافي الناجح ، والذي ينبغي أن يوليه المثقفون العناية والاهتمام .
في هذا الإطار تبرز ، جملة من الأفكار الكبرى ، والتي تحتاج إلى المزيد من الحوار والتلاقي الثقافي المستمر لإنضاجها ، وهي في المحصلة النهائية تشكل بعض طرائق استعادة الشخصية الثقافية لأمتنا ، حتى تمارس دورها الحضاري والعالمي ، انطلاقا من انسجامها مع منظومتها الفكرية والثقافية ، ومن أهم هذه الطرائق الآتي :
منظومة جديدة من المفاهيم الثقافية والمعرفية ، إذ أن إعادة الشخصية الثقافية لأمتنا العربية والإسلامية ، يتطلب منظومة جديدة من الأفكار ، التي تجدد الحياة العربية والإسلامية وتخرجها من الآفاق الفكرية الضيقة ، ومن الجمود الثقافي الذي يتسم به أجزاء أساسية من واقع العرب والمسلمين اليوم ، ومن الانغلاق القاتل واجترار ثقافة الغير .
إن الواقع العربي والإسلامي اليوم ، لا يتمكن من الانعتاق من آسار مشكلاته وأزماته ومواكبة متطلبات راهنه وعصره إلا بخلق منظومة جديدة من الأفكار والقيم الثقافية والمعرفية ، وتجاوز حالات اليباس الثقافي التي تجعل العرب والمسلمين اليوم يدورون في دوائر مغلقة لا يستطيعون الفكاك منها .. ولا بد من بيان أن المنظومة الفكرية والمفاهيمية الجديدة ، لا تتأتى عن طريق الاستيراد أو الإسقاطات المعرفية و المنهجية ، وإنما عن طريق إعادة قراءة مفاهيم الفكر العربي والإسلامي ، قراءة جديدة ، وبعقلية نهضوية متحررة من آسار و رواسب عهود الانحطاط والجمود .
فالحوارات الثقافية التي لا تخرج من الشبكة الثقافية السائدة ، وتسعى بوسائل مختلفة لإبقائها مهيمنة ومستمرة ، هي حوارات لا تؤدي إلى نتائج نوعية وذلك بفعل تأخرها أو عدم مقدرتها على المساهمة في خلق منظومة فكرية جديدة ، تغرس روح التحدي والنهضة في جسم الأمة ، وتحاصر كل أشكال الجمود والتخشب .
ونظرة فاحصة إلى المشهد الثقافي العربي والإسلامي العام ، تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بضرورة بلورة منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة ، ومتناغمة ومنسجمة وأصول الثقافة العربية والإسلامية ، وتواكب متطلبات اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم .
وبدون هذه المنظومة ، سنبقى نعيش الفوضى الفكرية والمعرفية ، ونلهث وراء لافتات وعناوين لا تزيدنا إلا ابتعادا عن مقاصدنا وغاياتنا الكبرى .
ومن المؤكد أن هذه المنظومة المفاهيمية والفكرية الجديدة ، ستخلق حالة ثقافية متحركة وفاعلة في واقعنا العربي والإسلامي ، نتعايش معها ونتفاعل مع حركتها وتكون شيئا ملموسا على الأرض لها مشخصاتها وقسماتها وآلياتها وفعلها .
وتبرز هنا حاجتنا إلى تطوير كل ماله صلة ودور وتأثير في تحريك المياه الراكدة وتطوير النظرات الثقافية ، وتبديد الأوهام المعرفية ، حتى تتوفر كل العوامل والأسباب المفضية ، إلى خلق منظومة فكرية جديدة للواقع العربي والإسلامي ، تأخذ على عاتقها تعبئة كل قوى الأمة في مشروع النهضة والعمران الحضاري .
وهذا بطبيعة الحال ، بحاجة إلى تكثيف قيم التواصل الثقافي والمعرفي والإبداعي بين مختلف المدارس الثقافية والفكرية ، و الحوار بين أهل الثقافة والأدب والإبداع ، وخلق الطموحات والتطلعات العلمية الجادة ، وتحسين مستوى العطاء والإنتاج الثقافي والإبداعي ، حتى تشارك جميع هذه العناصر في خلق وإنضاج الظروف المؤاتية لخلق منظومة فكرية جديدة .
النهوض بحركة نقدية في الوسط الثقافي والأدبي والإبداعي العربي ، تحمل ملامح الثقافة الجادة ، لنقد وتطوير الحياة الثقافية العربية .
فالحياة الثقافية لا تؤتي ثمارها على مستوى البناء ، ورفد الواقع العربي العام بمقومات المنعة وأسباب القوة ، إلا بحركة نقدية جادة وأصيلة تنقد الأفكار لتطويرها ، وتراقب المشروعات لبلورتها وغرس قيم التطور النوعي في مسيرتها .
لذلك ينبغي أن تهتم الحياة الثقافية العربية ، بخلق آليات وأطر تمكن المجتمع العربي من تطوير حركة النقد البناء في مسيرته ، حتى يتمكن من حل مشكلاته بنفسه ، بدون الاستجداء من الغير الحلول والمعالجات لأزمات الواقع العربي والإسلامي .
وذلك لأن المجتمع الذي يتمكن من حل مشكلاته بنفسه يستطيع عبور أزماته ، دون انتظار للقوة المؤثرة ، أو التلهي بالشكوى ، مما يعزز الروح الإيجابية والجدية في التعاطي مع الحياة والمستقبل ، ويوسع من نطاق التفاعل الداخلي بين قوى الأمة ومدارسها المتعددة ، في سبيل معالجة الشعور بالعجز أو النقص الذي يعاني منه الواقع العربي والإسلامي .
لأن هذا الشعور يؤدي إلى الإعراض عن التواصل والحوار والتعاون لحل المشكلات العامة التي يعاني منها العالمان العربي والإسلامي . فالضعف والنقص لا يحلان بالتستر عليهما ، ومنع عملية الفحص الموضوعي ، التي تتجه إلى نقد بناء إلى تلك المكامن ، يبدأ بتعريتها وتقويمها وصولا إلى بلورة البديل والفكرة أو الرأي الجديد . فالنقد ضرورة من ضرورات الثقافة والمعرفة . ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني ، أن ثقافة ما نمت وتوسعت وتعمقت ، بدون حركة نقدية جادة رافقت تلك الثقافة ، وأخذت على عاتقها نقد نقاط الضعف لتقويتها ، ونقد المسار لتصحيحه ، وبيان النقاط والمواقع التي ينبغي أن تتجه إليها الثقافة لتتكامل . فاستعادة الشخصية الثقافية العربية والإسلامية ، لا تنجز إلا بعاملين أساسيين وهما :منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة ، تطرد الجمود ، وتحارب الانهزام النفسي والأفكار القدرية والجبرية وتطور من طموحات أبناء الأمة العربية والإسلامية ، وتنضج من خياراتهم في الراهن والمستقبل ، وحركة نقدية جادة وبناءة ، تأخذ على عاتقها التجديد في طرائق التفكير ، والعناية بالنواقص لتكميلها ، والعمل على رفد الواقع بأفكار وآفاق جديدة .
فالشخصية الثقافية المسؤولة ، لا تخلق إلا في محيط اجتماعي دينامي ، يأخذ على عاتقه تطوير ذاته ، ومقاومة كل عوامل التكلس التي تعترض واقعه .
والحوارات الثقافية والتواصل المعرفي ، من ضرورات الحياة الثقافية ، لأنهما يساهمان في خلق المنظومة الفكرية الجديدة ، التي هي رهان الأمة وسبيلها لبناء راهنها والتحكم في مصائرها المستقبلية .
والرهان الثقافي الذي نتطلع إليه وندعو الجميع إلى الالتزام بموجباته ، ينطوي على العديد من المسؤوليات والآفاق . لذلك فإن العناصر الأساسية التي تشكل بمجملها رهاننا الثقافي الجديد ، بحاجة دائما إلى جهد إنساني متواصل ينقل الوعد إلى الإنجاز والمفروض إلى واقع . وبدون هذه الإرادة الإنسانية النبيلة ، تبقى تطلعاتنا حبيسة صدورنا ، ولا تتوفر ممكنات التنفيذ .
لذلك فإن الرهان الثقافي الجديد ، بحاجة إلى إرادة إنسانية مستديمة ، تعمل على تحويل عناصر هذا الرهان إلى حقائق في الواقع الخارجي .
ومجالنا العربي والإسلامي ، أحوج ما يكون اليوم إلى ثقافة جديدة ورهانات معرفية مستقبلية تلحظ حاجات الواقع ومتطلبات العصر وقيمنا الحضارية الكبرى . فهذه القيم والموجهات الكبرى ، هي جسرنا الراهن لتجسير الفجوة بين الوعد والإنجاز ، الواقع والأمل . فاللحظة التاريخية الراهنة ، بحاجة إلى نمط جديد للتعامل مع جملة الظواهر الإنسانية ، حتى يتسنى للأمة الانطلاق في رحاب البناء والتنمية والعمران الحضاري .