الإمام السجاد (ع) شمس المعرفة والعمل
السيد فاضل آل درويش
لقد تجلت الأخلاق الرفيعة وتجسدت في كلمات الإمام السجاد (ع) ومواقفه، بما أجمعت وأطبقت عليه كلمات وشهادات من عرفوه وتعاملوا معه، وهذه سيرته النيرة تنضح بمكارم الأخلاق بما يدعونا إلى تصفحها وتأملها لتكون منهجًا ودستورًا أخلاقيًا نمتثله ونسير عليه، فالإنسان عنوان هويته هو العقل الواعي والسلوك التطبيقي المتزن المعبر عن بصيرته، فاللباس الأخلاقي ليس بترف ولا
يعبر عن ضعف ولا مثالية زائدة، وإنما هو تعبير كمالي يكشف عن مدى صدق ومصداقية الإنسان وتحليه بأدوات ومهارات التعامل المنطقي مع الأمور والأزمات، وكيفية إقامة العلاقات الناجحة، حيث هناك غريزة عند الإنسان هي حب الذات وطلب المنافع لها، وتجنب كل ما يؤذيه ويجلب له الضرر، وبالنظرة إلى الحياة الدنيوية فإن رفعة الشأن والمهابة والمكانة الاجتماعية المتقدمة لا يرسيها المال أو الجاه، فإن الاستغلالي ينتهز فرصة التقرب لأصحاب نفوذ المال والمنصب وما هو إلا تمويه وخداع، وليس بمحبوبية واحترام لذات الشخص، أما الأخلاق الرفيعة فتفرض وجودها في القلوب وتزرع الاحترام والمحبة، لما يمتلكه هذا الشخص من مقومات الأريحية والتعامل الحسن.
وهذه شخصية الإمام السجاد (ع) فرض وجوده بقوة أخلاقه العظيمة التي تجلت منها آيات التواضع والإحسان و التسامح، وفي قصة مجيئه لبيت الله الحرام وكان صحن المطاف مزدحمًا لدرجة أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك لم يكن باستطاعته الوصول للحجر الأسعد فجلس على كرسيه جانبًا، حتى أقبل الإمام السجاد (ع) فانفرج الناس صوبين حتى وصل للحجر الأسعد بكل سهولة، فما الذي جعل هذه المهابة والمحبة للإمام في قلوب الناس بما ميزه على الجميع حتى هشام بن عبد الملك؟
ما يسمى بالكاريزما أي محددات الشخصية الجذابة التي تراها تحظى بمكانة بين الناس واهتمام متزايد بكلماته ومواقفه، والإمام السجاد (ع) كان في أعلى درجات المحبوبية والجاذبية عند الناس، لما وجدوه فيه من خلق رفيع وتعامل جميل حتى مع من أساء له، وها هو علم النفس يثبت اليوم أن خلق التسامح هو أساس التصالح مع الذات والترفع عن المشاعر السلبية كالكراهية والأحقاد، التي تلهب الفؤاد بروح الانتقام مما يجعله مشتغلًا بالتخطيط الماكر ويجانب جادة تحقيق أهدافه.
الإمام السجاد (ع) قد خط في دعاء (مكارم الأخلاق) المفاهيم والقيم التربوية والتهذيبية للنفس، مما يجعلها منهجًا يقتدى به لأصحاب العقول الواعية، فيتأملون عباراته ويستخرجون منها المضامين العالية التي تدعو إليها ويتمثلونها سلوكًا، كما أن سيرته المعطاءة تنضح بكل مفردات القيم الأخلاقية من طيب الكلام والتعامل الراقي مع الآخر والتواضع، فمبدأ العطاء والإحسان تجلى في شخصيته (ع) في جميع الجوانب الفكرية والسلوكية، حيث اجتمع تحت منبره الشريف التلاميذ من مختلف النحل والطبقات دون أي تمييز أو تفريق بينهم في التعامل، فنهلوا من معين علمه حيث نشر (ع) الأحكام الشرعية وقيم الدين الحنيف ومعاني الآيات القرآنية.
والإمام السجاد (ع) صاحب مدرسة المواساة والبلسمة لآلام واحتياجات المعوزين، فكان يحمل جراب الطعام ليلًا بنفسه ويدور بها على دور الفقراء، وما كانوا يعرفونه لأنه يضع لثامًا على وجهه طلبًا للإخلاص لوجه الله تعالى، وله ابن عم يسيء له ويذكره بسوء، ولم يكن ذلك بالذي يمنعه من وصله فضلًا عن مواجهة سوء تعامله بمثله، بل كان الإمام (ع) يصله كبقية المحتاجين دون أن يعرفه بنفسه أو المن عليه، وما عرف ذلك الهاشمي أن الذي يصله بقضاء حوائجه هو الإمام السجاد إلا بعد شهادته.
هذه المواقف من اهتمام الإمام بأحوال الآخرين المادية ترسي معالم التكافل الاجتماعي الذي هو أهم ضمانات نيل كل فرد من المجتمع – حتى الضعيف – مستلزمات الحياة الكريمة، فالحرمان المادي الناجم عن إهمال المحتاجين سيولد كوارث اجتماعية وضياعًا لذلك المحروم.