الوطن للجميع
محمد محفوظ
لعل من المآزق التي تواجه المجتمعات المتنوعة عموديا وأفقيا , هو أن كل لون من ألوان الوطن , يريد الوطن بأسره من أقصاه إلى أقصاه على مقاسه ومنواله .
لذلك حينما يتحدث عن الوطن , يتحدث وفي رؤيته العميقة أنه يقصد ذاته , ويريد من الآخرين أن يتقمصوا ذاته ويلتزموا بقناعاته .
وهذه الإشكالية بطبيعة الحال , تقود إلى إشكاليات وأزمات أخرى . وبعيدا عن الدخول في متواليات وتأثيرات هذا المأزق , نود القول : أن الأوطان مهما صغرت جغرافيتها أو كبرت , لا يمكن أن تكون بمقاس لون من الألوان , أو طرف من الأطراف .
لأن الأوطان بطبعها هي للجميع , وأي جهد تعسفي يبذل لكي تكون الأوطان بمقاس لون أو مكون من المكونات , فإن مآل الأخير هو الإخفاق والفشل . لذلك من الضروري الإقرار على المستويين النفسي والمعرفي , ومن قبل جميع الأطراف ودوائر الانتماء , أن الوطن يسع جميع الألوان , ويحتضن جميع الأطراف . وأن هذه الأوطان ستصاب بأزمات شديدة , حينما يقرر طرف من الأطراف أنه يريد أن يكون هذا الوطن بمقاسه ومزاجه ووفق ما يشتهي . إن هذه الإرادة ستقود إلى أزمات ومشاكل بين ذات الأطراف والمكونات , كما أنها ستدشن لحالة من تصغير الوطن سواء على مستوى معناه أو على مستوى رسالته , وهذا بطبيعة الحال يضر براهن الوطن ومستقبله .
وعليه من الضروري الانطلاق من هذه المسلمة , التي بحاجة أن يدرك مغزاها ومدلولها الجميع . أن هذا الوطن لا يخضع لمقتضيات القلة أو الكثرة , ولا يخضع لمقتضيات القريب والبعيد , هو [ أي الوطن ] للجميع بكل ألوانهم وأطيافهم وقناعاتهم .
وحينما تتمايز وجهات النظر بين أهل الوطن الواحد , أو تتعدد انتماءاتهم التقليدية والتاريخية , لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن هناك طرف من الوطن وطرف آخر من خارج حدود هذا الوطن .
فمهما كان الرأي والتباين فيه , لا يحق لأي طرف من أطراف الوطن أن يدخل أحدا أو يخرج أحدا من هذا الوطن الذي يعشقه الجميع وعلاقة الجميع به , ليست علاقة فوقية أو طارئة , بل علاقة عميقة وذات أبعاد مادية ومعنوية , لا يمكن لأي أحد أن يتجاوزها أو يتغافل عن متطلباتها .
من هنا تعالوا جميعا على المستويين النفسي والمعرفي , نخرج الوطن بكل لوازمه , من سوق المزايدات الإعلامية أو السياسية أو الأيدلوجية .
لأن هذه المزايدات , لن تغير من حقيقة انتماء الجميع لهذا الوطن من أقصاه إلى أقصاه . وإن اختلاف القناعات والأفكار ينبغي أن يقود إلى الإنصات المتبادل والتفاهم المشترك والحوار المستديم ..
وليس الدخول في سوق المزايدات على وطنية المواطن . فأهل الوطن والذين لا يعرفون غيره في الوجود , وذاكرتهم التاريخية في الانتماء , لم تتعدى حدود هذا الوطن , ليسوا بحاجة إلى فحص دم من أحد , ولا يجوز أخلاقيا ووطنيا , مع أي اختلاف أو تباين في الرأي أو الموقف أو القناعة ندخل في مربع المزايدة على هذا الصعيد .
ولو فتح كل شخص أو طرف لنفسه , حق فحص دم الأشخاص أو الأطراف الأخرى على المستوى الوطني , فإن كل طرف قادر أن يتحدث ويشكك ويزايد , ولكن ما هي النتيجة الفعلية لذلك . لا شيء , سوى المزيد من الإحن وتنمية الأحقاد واستدعاء التاريخ بكل حمولاته السلبية .
أسوق هذا الكلام , ليس من أجل الدخول في مماحكات على هذا الصعيد مع أحد , وإنما للقول للجميع وبدون استثناء , أنه اقلعوا عن هذه الطريقة في التعامل مع شركاءكم في الوطن , ولا تساهموا في تأزيم العلاقة بين أهل الوطن الواحد . المطلوب من الجميع العمل على رص الصفوف وسد الثغرات وتقوية اللحمة الداخلية , وإذا لا أود لأي سبب من الأسباب المشاركة والمساهمة الفعالة في هذه الأدوار , فعلي التوقف عن بث الفرقة والدخول في هذه المهاترات الأيدلوجية , التي لن تغير من حقائق الوطن , ولن تحول هذه الحقائق إلى أوهام أو أرقام مجردة .
فالوطن للجميع بكل خصوصياتهم , ولا يجوز لأي طرف المزايدة في هذا السياق . وتباين القناعات لن يدخل أو يخرج أحد من هذا الوطن الذي يسع الجميع ومن حقهم جميعا .
وفي هذا السياق أيضا نود التأكيد على الأفكار التالية :
1ـ ثمة ضرورة وطنية قصوى وبالذات في هذه الظروف الحساسة , أن نعترف جميعا بمقتضيات التنوع , وإن هذا التنوع الأفقي والعمودي , ليس عورة الوطن التي يجب إخفاؤها , وإنما هي ثروة الوطن التي تتطلب رؤية حضارية ووطنية عميقة لاستثمارها في تعزيز البناء الوطني وتمتين لحمته الداخلية .
ونحن جميعا كأهل وطن واحد , نتحمل مسؤولية العمل لمواجهة التحديات التي تواجه الوطن , بدون الدخول في سوق المزايدات التي يضمر أكثر مما يظهر , وكأن الأوطان تباع وتشترى .
2ـ تعالوا جميعا وبدون استثناء نعمل ونكافح من أجل أن لا تكون العلاقات الوطنية بين مختلف الأطراف والأطياف صدى لمشكلات الخارج وأزماته .
فالمطلوب من الجميع حماية الوطن من مشكلات الخارج . وما يجري اليوم على أكثر من صعيد , إننا جميعا رهنا علاقاتنا الوطنية بطبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة .
وهذا بطبيعة الحال سيقود إلى مآلات سلبية على الجميع . قد نختلف في تقويم الأحداث التي تجري في هذا البلد أو ذلك , وقد تتباين وجهات نظرنا في النظر إلى تطورات المنطقة وأحداثها المتسارعة , ولكن لا يجوز لأي طرف أن يرتب علاقته مع شريكه في الوطن على ضوء تطورات المنطقة والإقليم .
والمطلوب دائما وأبدا رفض نقل معارك الخارج إلى الداخل , وتحميل وزر أحداث الخارج على أحد مكونات الوطن . وقراءاتنا المختلفة لأحداث المنطقة , لا يشرع لأي طرف نقل مقتضيات تلك المعركة إلى الداخل . لأن تحويل وطننا إلى صدى لمشكلات الخارج , يضر باستقرارنا , ويهدد نسيجنا الاجتماعي .
فتعالوا جميعا نقرر أن نحصن وطننا , ونحمي وحدته , ونذود عن عرينه , ولا نحمل أنفسنا وزر معارك الخارج وتوتراته المتنقلة .
ولا بد أن يدرك الجميع أن حماية السلم الأهلي , أولى من كل المعارك واليافطات الأيدلوجية .