شهد وكريم
عبدالباري الدخيل
أصيب الدكتور السيد كريم حسين بجلطة بعد أن تعرض لضغوط نفسية حادة وقلق بسب انقطاع أخبار بعض أفراد أسرته إثر حادث انفجار إرهابي وقع في مدينتهم العراقية.
كان يتصل بهم فردًا فردًا في حالة عصبية وبكاء وتوسل إلى الله أن يحفظهم، وكانت شبكة الاتصالات متوقفة، لذلك لم يسمع صوت أحد منهم.
فجأة بدأ يصاب بخدر في وجهه، وصعوبة في التنفس ثم صعوبة في الكلام، التفتت لحالته ابنته فاتصلت بسيارة الإسعاف وتم نفله للمستشفى فورًا.
عند باب غرفة الطوارئ وقف الجميع ينتظرون وقلوبهم معلقة بين الخوف والرجاء، وبمجرد أن خرج الطبيب هجموا عليه يسألونه عن صحة (بابا كريم).
أجابهم بهدوء: لقد أنجاه سرعة إسعافه من سكتة كادت تنهي حياته.
بعد ثلاثة أشهر من إصابته بالسكتة بدأ (بابا كريم) الخروج لاستنشاق الهواء، ولممارسة المشي حسب توصيات الطبيب.
اختار أن يمشي بين الماء والخضرة في حديقة (سانت جيمز) القريبة من منزله، الجو اليوم في لندن صحو والشمس كأنها فتاة تخاف من القبيلة فتكشف وجهها تارة وتخفيه أخرى.
ترتاد العوائل هذه الحديقة الغنّاء، حيث المساحات الخضراء، والطبيعة الخلّابة، والبحيرة الاصطناعية ذات المنظر الآسر، للابتعاد عن ضوضاء الحياة وللتمتّع بأوقات من التأمُّل والهدوء.
أثناء تجوله في الحديقة سقطت عصاه فوقف متحيرًا لا يستطيع الاستمرار ولا التوقف، وأعصابه لا تساعده أن ينحني لأخذها، فتقدمت فتاة عشرينية وتناولتها من الأرض ووضعتها بين يديه.
نظر لها وقال: Thanks
ابتسمت وقالت: Welcome sir
قبل أن تبتعد ناداها: Please wait a minute
عادت ووقفت أمامه متحيرة، ولم يطل صمته فقد سألها: where do you come from؟
قالت: from Iraq
قال: العراق العظيم؟
قالت: نعم
وضع يده على رأسها وقال: باركك الله.. وقال في سره: ليتك تعلمين أنني أحببت فتاة عراقية ذات يوم.
مشى قليلًا ثم التفت لها فوجدها واقفة مكانها، عاد وسألها: هل اسم أمكِ (شهد)؟
قالت: لا.
أكمل مشيه وهو يترنح كأنه سفينة تلعب بها العواصف والأمواج، فلا تستقر على طرف.
كاد أن يقع فأمسكته نفس اليد بكل رفق وحنان، وساعدته حتى وصل إلى كرسي قريب وجلست بجانبه لتطمئن عليه.
وضع يدها بين يديه وهو يتفحص تفاصيل وجهها.
قالت: لماذا تنظر إليّ بهذه الطريقة؟
مسح بيده المرتجفة على رأسها وأبعد خصلة عن خدها وقال: أنت تشبهين فتاة أحببتها.. وأكمل وأنفاسه تتكرر مسرعة: كنّا ندرس في جامعة البصرة.. ثم رفع رأسه للسماء وكأنه يناجي ربه، وبصوت حزين وخفيض قال: جمعنا الحب.. وفرقتنا الحرب.
قالت: هل كان اسمها (شهد عبدالجبّار)؟
قال مفزوعًا: نعم.. “شهد جبّار”، نظر لها وعيناها جامدتان وسألها: “تعرفيها؟”
أجابته على الفور بلهجتها العراقية: “لكن (بيبيتي شهد) ما درستْ بالجامعه”.
قطع حديثهما شاب جاء وسلّم، قال: “دكتور كريم نرجع للبيت؟”
أجاب: نعم.. لقد أتعبتني العراق.
ودّعها متمنيًا لها الصحة والسلامة.. وعادت الفتاة إلى أمها، التي استقبلتها بسؤال يلفه الخوف: أين كنتِ؟
قالت: كنت أساعد رجلًا مريضًا.
ثم وهي تمشي بجوار أمها سألت: “ماما (بيبيتي شهد) درستْ بالجامعه؟”
تدهش الأم وتفتح عينيها وتسألها: لماذا تسألين؟
قالت: الرجل المريض الذي ساعدته قال أنني أشبه سيدة درست معه في الجامعة واسمها (شهد جبّار).
قالت الأم متلهفة: السيد كريم؟ أين هو؟ قومي لنراه.
قالت وهي تتأمل في ردة فعل أمها: جاء شاب وذهب معه إلى بيته.. وأكملت: “ماما تعرفينه؟”
قالت الأم وظلال ابتسامة على وجهها: “لقد جمعهما الحب.. وفرقتهما الحرب”.