خديجة بنت خويلد (ع) سيدة الإرادة والتضحية
السيد فاضل آل درويش
تمثل السيدة خديجة بنت خويلد الوردة النابتة في الأرض القاحلة أو مرتفعات الجبال الوعرة، وذلك لتفردها وتميزها في صفاتها وفكرها المغاير تماما لما كانت عليه دفة الأمور في مجتمعها، ففي وسط مجتمع ظلامي لا يقر وجود أي مكانة للمرأة على المستوى المعنوي ودورها في تنشئة أفراد المجتمع، ولا من جهة الإقرار القانوني بوجود حقوق لها و منها مسألة الميراث مثلًا، كما أنه مجتمع يتهم المرأة في عقلها و يرى فيها كيانًا عاطفيًا لا يمكن إشراكه في أي قرار أو فكرة على المستوى الأسري ، وإنما دورها الآلي هو توفير الراحة لزوجها وإعداد مستلزمات المعيشة لأبنائها، فكانت شخصية السيدة خديجة (ع) انقلابًا وتحولًا في نظرة المجتمع الجاهلي (مجتمع ذكوري) من خلال ما تجلى فيها من مظاهر القوة والريادة والحكمة التي تميزت بها، وأظهرت أنها (ع) لا تضاهى في ملكاتها بل وتفوقت على كثير من الرجال وسميت بالسيدة الأولى في مجتمعها وإليها يشار بالبنان.
لقد كان لهذه المرأة الفضل العظيم على المسلمين و ذلك لمساعدتها الرسول (ص) والوقوف معه في نشر الدعوة الإسلامية وتحمل ما صاحبها من مصاعب وأحمال لا تطيقها الجبال الرواسي، فهذه العظيمة كانت صاحبة ثروة طائلة ولها تجارتها المعروفة التي من خلالها اشتغل شباب مكة وأشركتهم معها عن طريق عقود المضاربة، ولا تخفى على الأريب تلك الآثار السيئة على أصحاب الأموال من نرجسية ورؤية عظمة وبخل وشح عاطفي بمآسي الناس و غيرها، ولكن من كان معدنه أصيلًا لا يكون أسيرا للمال بل يطوعه بين يديه – كما يطوع الحداد الحديد – ويجعله وسيلة لإدخال السعادة عليه من خلال توفير مستلزمات الحياة الكريمة له و لتكون عونًا لمن يحتاج المساعدة، فأصحاب القلوب البيضاء يرون سعادتهم وأنسهم بتفاعلهم ومشاركتهم في إزالة متاعب الآخرين والتخفيف من عبء الحاجة والفقر، وأما السيدة خديجة فقد سمت في دنيا العطاء والبذل على أعلى مستوياته، فقد نثرت أموالها بين يدي رسول الله (ص) لتكون عونًا له فيما يحتاجه في طريق نشر الإسلام، وسلام عليها إذ لم تبتغ من الدنيا مظاهر زخرفها فما اتخذت قصورًا وما خلفت الأراضي، وإنما بقي على مدى الزمان عبق عطر سيرتها الفواح، والذي تتناوله الأجيال تلو الأجيال وهي حكاية امرأة عظيمة في كل صفاتها، وما كان ليجود بمثلها ولكنها قدوة للمؤمنين في التحرر من قيود المال والعبودية له، فما يقدم من مساعدة مالية لمحتاج لا يتبخر وإنما يرحل للعالم الأبدي ليتحول إلى مفردة من نعيم الجنان يوم القيامة.
ولم يقتصر دورها الريادي في الإسلام على الجانب المادي وإنما هناك ما هو أهم من ذلك، ألا وهو الدور الروحي واحتضان الرسول (ص) والتخفيف عنه لما يلاقيه من أذى ومتاعب من عناد قريش و جحودها وإنكارها لآيات الله تعالى، وكلنا نعلم ما للصاحب الروحي من دور عظيم في وقوفنا على أرجلنا بعد كل أزمة تداهمنا بالهموم والأحزان، فهو مصدر قوة واقتدار في مواجهة صعوبات الحياة وعراقيلها والخيبات التي نمنى بها، والسيدة خديجة (ع) لم تبخل على رسول الله (ص) بشيء بل وهبت روحها ووقتها وجهدها في سبيل التخفيف عنه، فأحاطته بسور حصين لا يصل إليه أحد بسوء وشاركته مختلف محطات حياته الدعوية حتى آخر رمق لها في هذه الدنيا الفانية، فكانت نعم الركن الشديد الذي يستند إليه في مثل هذه المهمة الإصلاحية الكبرى وعملية تخليص المجتمع المنغمس في الضلالات من تلك المفاسد، وصناعته وفق القيم الأخلاقية الرفيعة والفكر الواعي.
لقد امتازت السيدة خديجة بالفكر الثاقب والحكمة الرصينة والتقييم المراعي لمعايير الكمال في شخصية الآخر، وهذا ما لمسته في شخصية أفضل الخلق (ص) وما تناهى لسمعها من سيرته الغراء ونعت قريش له بالصادق الأمين، ولم تكن هذه العظيمة بالتي تكتفي بالتقييم الأولي فيما سمعته، بل انطلقت في تجربة فريدة في ذاك الزمان من خلال نقل من تأتمنه فيما يراه وهو غلامها ميسرة، فأرادت منه أن ينقل جميع مواقف وكلمات الرسول الأكرم (ص) في رحلة التجارة إلى الشام، وبعد رجوعهم نقل لها ما جعل روحها تتوق إلى هذه الشخصية الكمالية وحدثت نفسها بالاقتران به، لما يحمله من صفات وخصال لا يتمتع بها غيره، فكان لها ما أرادت وارتبطت بأعظم الخلق وكانت خير عون له في طريق تحقيق العدالة والإصلاح وهداية البشر.