ليلة القدر ليست كما قبلها
السيد فاضل آل درويش
لليلة القدر مضامين وغايات لا بد من التأمل فيها لنكون مستوعبين لفيوضاتها وما تورثه النفس من أسباب القوة والمنعة في مواجهة خطوات الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، فمن أولى علائم التوفيق لإحياء ليلة القدر هو التحشيد النفسي والروحي لها قبل مقدمها، فليس من المعقول أن تطأ قلوبنا أرضها المقدسة وهي ملوثة بشوائب الذنوب وأوجه التقصير، فمن تصور أن ليلة القدر هي مجرد قراءة الأدعية والروح غائبة عنها فهو واهم، بل ليلة القدر صناعة للجانب الروحي والأخلاقي والنفس في دورة تدريبية مكثفة، ينطلق بعدها المؤمن في بقية الشهور وهو حريص على الاستفادة من المكتسبات الإيمانية وعدم التفريط فيها، وإلا كان كعيية مكة التي تغزل الصوف ثم تنقضه في نهاية ذلك اليوم لتعاود في اليوم التالي عملها وتبدأ من الصفر، فهناك من يهتم ويعتني بالشهر الكريم وينخرط في البرنامج العبادي فيه حتى تشرق روح الطمأنينة والأنس بالله في نفسه، و- يا للأسف – ما إن ينتهي الموسم الرمضاني حتى يلتهي بمشاغل الدنيا ويبتعد شيئًا فشيئًا عن قراءة القرآن الكريم والأدعية حتى تصبح نفسه فارغة وخاوية، وتفقد المناعة المكتسبة في مواجهة هتاف الشيطان لتكون صيدا سهلا له، فيقارف المعاصي ويتجلى منه التقصير أكثر فأكثر حتى تبدو سوأته المعنوية ويتعرى من لباس التقوى والخشية من الله تعالى.
وما ورد في فضل ليلة القدر العظيمة في كتاب الله تعالى من أن إحياءها خير من ألف شهر يشير إلى أمر مهم يتعلق بالعبادات، فالأمر ناظر إلى الكيف والإخلاص وثمرة التقوى وليس إلى الكم والعدد إذا كان خاويا من المضامين والغايات الأخلاقية، ولذلك فليلة القدر هي ذروة وقمة العلاقة بالله تعالى القائمة على خشيته وتعظيم حرماته والقرب منه، والأعمال العبادية في تلك الليلة وسائل القرب منه ونيل رضوانه، فالغسل المستحب في تلك الليالي هو لتطهير النفس من درن وأوساخ الذنوب التي لوثتها وصبغتها بالسواد، والأدعية سمو للنفس في محضر الباري وإقرار واعتراف بالتقصير ومقارفة المعاصي، وطلب لنزاهة النفس وتطهيرها وإلباسها ثوب الورع عن محارم الله تعالى، تطوف النفس بين معاني وقيم الأدعية الأخلاقية وتشم نسيم الرحمة والمغفرة، وتلك المقاطع التي تتحدث عن نار جهنم وعذابها ترفع درجة الوعي والحذر عنده من الانزلاق في مهاوي الآثام، وتلك السلاسل من الرذائل الأخلاقية التي تكبله من التكبر والأنانية وقلة احترام الآخرين والغيبة والكذب تتساقط قوة تسلطها عليه، مع إدراكه آثارها الوخيمة عليه في الدنيا من إلباسه رداء الإحساس بالنقص وفي الآخرة يلقى جزاء ما قدمت يداه من عذاب أليم، فالدعاء بفكاك رقبته من النار رغبة في تحقيق هذا الهدف وسعي وعمل في ساحة وقاية النفس وتنزيهها من الذنوب ورقابة على الجوارح، والبكاء على النفس والدموع الجارية هي نتيجة التفاعل الوجداني والفكري مع التأمل في سوء حاله وما وصل إليه من بعد عن ساحة الرحمة الإلهية وتعرضه لمواطن السخط الإلهي واستحقاق العقوبات، وحذار من اليقظة المؤقتة التي يندم فيها المرء على ماضيه وما إن تنتهي أيام الشهر الكريم حتى تراوده نفسه ويعاود الكرة والاشتياق للشهوات المتفلتة، وأما اليقظة الروحية الحقيقية والمطلوبة فهي ما كانت على خط الثبات والاستقامة وعقد العزم على التغيير الإيجابي بشكل مستمر.
وهذا التغيير يعني الارتحال من عالم السوء والطمع والظلم والتعلق – لحد شغاف القلب – بملذات الدنيا ونعيمها الزائل وانشغال الفكر المستمر بها، فنجاحنا في ليلة القدر يقاس بقدر ما نتجنب مساويء الأخلاق والتعامل الفظ والسيء في محيطنا الأسري والاجتماعي، فليلة القدر ما قبلها ليس كما بعدها على صعيد صناعة وصياغة النفس البشرية وتحولاتها واتجاهها نحو التصحيح والتعديل، والنظر في السلوكيات من خلال التخلص من السلبيات منها والعمل الحثيث في طريق (التخلية)، كما أن المكتسبات في تلك الليلة العظيمة من الخشوع والأنس بذكر الله تعالى يحولها إلى إرادة قوية في ساحة مواجهة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.