التربية والإحسان الإلهي في دعاء أبي حمزة الثمالي
السيد فاضل آل درويش
قولُه (عليه السلام) (إلهِي رَبَّيتَنِي في نِعَمِكَ وإحسانِكَ صَغِيرًا ونَوَّهتَ بِاسمِي كَبِيرًا) (دعاء أبي حمزة الثمالي).
يرشدنا الإمام السجاد (ع) إلى باب وطريقة من الطرق إلى إيقاظ الضمير وتوعيته من حالة الغفلة والسبات في غمار الشهوات والأهواء، وذلك عن طريق تذكر النعم الإلهية علينا وما أسبغه من آلاء لا تعد ولا تحصى، إذ لو تفكرنا في عظيم صنعه في خلقنا وما وهبنا من نعم بامتداد أعمارنا وتخطينا مراحل النمو مرحلة مرحلة، وقد حفظنا سبحانه من الأمراض والآفات حتى بلغنا مرحلة الشباب والقوة البدنية، ولذا نلاحظ أن الكثير من العلماء يزدادون يقينا وإيمانًا بالقدرة وبديع الصنع الإلهي من خلال ملاحظة ملائمة التركيب والوظيفة في أعضاء الجسم وأجهزته، وكيف يسير وفق منظومة لا تتخلف، فالتفكر في عظيم مننه وتفضله يعيد بوصلة الإنسان نحو التراجع عن الخطايا والإجرام في حق نفسه، إذ لو صنع لنا معروفًا أحد من الناس ثم قابلناه بالجحود والبخل لقبح ذلك عند كل عاقل فطن، فكيف إذا جحدنا نعم أكرم الأكرمين، والذي في خضم انغماسنا في الشهوات والبعد عن ساحة رحمته وذكره لم يحرمنا واستمر عطاؤه الوافر علينا، أفلا يستحق هذا الإحسان الذي لسنا أهلا لها أن نقف على دكة محاسبة النفس ومراجعة أوراقنا؛ لنعود إلى ساحة القرب من الله تعالى وتصحيح المسار والتغيير الإيجابي، متخلين عن كل تلك الموارد المعرضة لسخط الله تعالى ونقماته، فإذا كان العقل يتبلد أمام الأفكار النيرة وينشغل عن تفهمها وإدراكها كعظمة الله تعالى ونعمه التي لا تحصى، فإن الحس البشري يتماس مع النعم الإلهية في كل آن فيراها و يشمها ويلمسها.
الإمام السجاد (ع) ينتشلنا من مستنقع الذنوب والآثام من خلال الربوبية والتدبير الإلهي إلى مقام العبودية المخلصة والطاعة والالتزام بالأحكام الإلهية، فيذكرنا (ع) بأننا كنا في حالة العدم فأنعم علينا بالوجود في أعلى درجات الإبداع والنظام والإكرام، وفي كل مرحلة ينتقل لها الإنسان من الطفولة إلى المراهقة إلى فتوة وعنفوان الشباب فإن الرعاية والحفظ الإلهي يلازمه، كل ذلك بفضل التربية والعناية الإلهية التي إذا استوعبها وأدرك معناها كانت طريقًا لهدايته ويقظته من غفلته وتقصيره.
التربية الإلهية لطف وتفضل منه سبحانه بالأخذ بأيدي عباده الساعين إلى مجاهدة أنفسهم و وقايتها من الآفات والرذائل الأخلاقية، إذ تلتقي العناية الربانية مع مساعي ومثابرة العبد للوصول إلى أعلى درجات الكمال، فإنه سبحانه يتعاهد عبده بنعم لا تعد ولا تحصى فليتفكر فيها حتى يؤدي حقها من الشكر، وإذا نظرنا فيما افترضه تعالى علينا من واجبات وعبادات فسنرى أنها تصب في مصلحة الإنسان وتكسبه من الومضات ما يأخذه نحو رفعة الشأن والتكامل، فالعبادات كالصلاة والصوم وغيرها يؤدي الالتزام بها إلى إنبات جذور التقوى والخشية من الله تعالى ومحاسبة النفس من الوقوع في الزلل، كما أن ترك المحرمات كالكذب والخيانة ونظرة الحرام والغش والحسد ينزهه من الرذائل والمعايب، وهناك من العبادات كالصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى يخلصه من ربقة الأنانية والبخل وتبلد الحس الوجداني تجاه حاجات وآلام الآخرين، فتنفتح نفسه على باب من أبواب السعادة وهو مد يد العون للمحتاجين.
بل وحتى حالات الشدائد والمصاعب لا تخرج عن دائرة التعاهد والرعاية الإلهية، فالظاهر لصورة تلك الأزمات هو الإرهاق والتعب واعتصار القلب من الألم والضيق النفس و تكدر العيش، ولكن لها صورة باطنية يدركها من تعقل تلك الشدائد لما تعود به على المرء من مكتسبات، فالرعاية الإلهية تدعوه إلى ضبط النفس وعدم الخروج من دائرة التعقل إلى دائرة الانفعالات الشديدة المؤدية إلى الإحباط واليأس، ويحرك فكره بالبحث عن حلول ومخارج ممكنة مهما كانت الخسائر التي أصيب بها، كما أن روح النفس الطويل والصبر على المتاعب والتمسك بروح الأمل بالله تعالى، يجعله في كل أحواله – حتى شدائدها – في حالة الطمأنينة والاتزان الفكري والنفسي .