السلم الاجتماعي
محمد محفوظ
إن التخلف الحضاري الذي تعانيه شعوبنا العربية والإسلامية بنسب مختلفة ، يلقي بظله الثقيل على مجمل مرافق الحياة ومجالاتها .
ومن المجالات الحيوية التي يصيبها داء التخلف ، ويؤثر في حركتها ونمط تكوينها الداخلي ( المجال الاجتماعي ) .
حيث أن الضعف الاقتصادي ، وغياب الاستقرار السياسي ، واهتزاز القيم الأخلاقية والمعيارية . كل هذه الأمور تعكس آلياتها وتأثيراتها على الحقل الاجتماعي ، ولعل في غياب مفهوم الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية ، ما يعكس عمق هذه الأزمة ، ويبرز تأثير التخلف الحضاري في هذا الحقل الحيوي و الهام .
إذ أن السمة الغالبة للكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، هي بروز جملة من الظواهر والنتوءات ، التي تعكس وجود خلل خطير في مسيرة المجتمعات العربية والإسلامية . وبإمكاننا أن نفسر مقولة غياب الاستقرار الاجتماعي ، بالحروب الاجتماعية المغلفة ( الكامنة ) والصريحة التي تعانيها مجتمعاتنا تحت عناوين ومسميات مختلفة . مما أفقد العالم العربي والإسلامي ظاهرة السلم الاجتماعي وثمارها العميقة على مستوى الداخل العربي والإسلامي والخارج الدولي .
وحينما يفقد التوازن والسلم ، تتجه كل الطاقات إلى الهدم لا البناء ، وإلى التقوقع والانطواء على الذات لا الانفتاح والانطلاق الرحب .
وبهذا تتضخم التناقضات الداخلية ، ويصبح هم كل طرف إلغاء خصمه من الخريطة الاجتماعية . ومن ثم يدخل المجتمع بقواه المختلفة في لعبة الصراع المكشوف والتصفية الجسدية والمعنوية .
وفي المحصلة النهائية : إهدار كل الطاقات والإمكانات في أمور وقضايا تزيد المحنة الداخلية وتعمق القيود التي تمنع استعادة المجتمع لحيويته وفاعليته التاريخية .
ولهذا فإننا كشعوب عربية وإسلامية ، أحوج ما نكون إلى توطيد دعائم السلم المجتمعي ، وإنهاء كل الأسباب والمظاهر التي تحول دون انطلاقة المجتمع في عملية البناء والتطوير .
وإن النواة الأولى لتحقيق سلم اجتماعي ، هي إشاعة ثقافة السلم والتسامح ونبذ التعصب في أرجاء المجتمع . وينبغي أن نستفيد من المنابر الإعلامية والمؤسسات التعليمية في إشاعة هذه الثقافة ، التي تهيئ الأرضية المناسبة لمشروع السلم الاجتماعي.
وثمة حقيقة أساسية في هذا المجال وهي : أن إشاعة ثقافة التسامح والسلم ، هي التي تؤسس مفهوم الوحدة الوطنية . لأن الثقافة الواحدة التي تقبل الآخر كما الذات ، هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية . لهذا فإنه من الضروري الاهتمام بمسألة إشاعة الثقافة التي تغذي مفاهيم السلم الاجتماعي.
ولا بد من القول أن الأوطان المتقدمة سياسيا واقتصاديا وتقنيا ، لم تبن بلون تاريخي أو قبلي أو عرقي واحد ، وإنما هي عبارة عن مجموعة من المجتمعات التاريخية أو القبلية أو العرقية ، التي اندمجت مع بعضها البعض على قاعدة السلم الاجتماعي والوطن الواحد والمصلحة المشتركة ، ولم تقف هذه الأوطان عند هذه الحدود ، وإنما عملت على تطوير التجربة ، وتعميق الوحدة الوطنية بنظام قانوني يكفل للجميع حريتهم ، ويتعاطى مع الجميع على القاعدة الوطنية المشتركة . وبهذا تم إبطال المفعول السلبي للتمايز التاريخي أو العرقي أو القبلي . عبر نظام يؤسس السلم الاجتماعي ، الذي يصنع عند المواطن حالة نفسية وعملية تتجه نحو إعلاء المشترك مع الإنسان الآخر ، واحترام نقاط التمايز وإبقائها في حدودها الطبيعية التاريخية والثقافية .
فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا ، لا تتكون من شعب واحد أو عرق واحد أو ديانة واحدة ، وإنما هي مجموعة من الشعوب انصهرت في إطار قانوني – سياسي ، وفر للجميع المساحة الخاصة التي يعبر فيها كل شعب أو مجموعة بشرية عن عقائدها وأفكارها .
وفي الإطار العام تسود المجموعات البشرية علاقة السلم الاجتماعي على قاعدة قانونية ووطنية مشتركة . مما يدفع جميع المجموعات البشرية إلى الدفاع عن هذا النموذج والسعي نحو إبراز قيمه الأساسية .
وحينما نتمعن في التاريخ وعوامل نشوء العصبيات ، ومن ثم تأثيرها السيئ في الوجود المجتمعي . نجد أن ظروف القهر والنفي والإقصاء والاستعلاء ، هي التي تدفع الآخرين إلى التخندق والتمترس في إطار عصبوي ضيق . وإن المزيد من الاستعلاء ، لا يؤدي إلى تلاشي العصبوية التاريخية والاجتماعية ، وإنما يزيدها أوارا واشتعالا . فالنفي لا يولد إلا نفيا مثله ، والعنف يصنع عنفا مضادا . وهكذا يصبح خيار القفز التعسفي على التنوع المجتمعي لا يحل المسألة بل يزيدها تعقيدا .
والمنظور السليم للتعامل مع العصبيات التاريخية ، هو المزيد من السلم الاجتماعي والتسامح الثقافي ، الذي يسمح لتلك العصبويات من ممارسة دورها الايجابي في البناء والتلاحم الاجتماعي .
وإن إنهاء تأثير العوامل الخارجية على الوضع الداخلي المتنوع ،ليس بالمزيد من قرارات المنع والحظر ، وإنما بتوفير الأمن الاجتماعي والثقافي والسياسي . فالمجموعة البشرية التي يتوفر أمنها الاجتماعي والثقافي والسياسي ، لا تضحي به من أجل علاقة متميزة مع الخارج أو تأثير مفتوح من الخارج بعوامله المختلفة ، على الداخل بآفاقه وحقوله المتعددة .
أما المجموعة البشرية التي تفقد الأمن بكل صوره ، فهي لا تخاف على شيء تخسره . لذلك فهي تكون مهيأة لاستقبال التأثير بكل صوره من الخارج .
وتأسيسا على هذا نقول : أن الفريضة التي ينبغي تأكيدها والعمل على تكريسها في واقعنا الاجتماعي والوطني هي فريضة السلم الاجتماعي . لأنها العاصم من المتاهات والحروب المجهولة المصير . ولابد من تعميم الوعي والثقافة ، التي تؤكد على هذه الفريضة وتعتبرها من المشاريع الحيوية والأساسية .
وإن التعايش والسلم المجتمعي ، لا يعني تطابق وجهات نظر المواطنين حول مختلف القضايا والأمور . لأن تطابق وجهات النظر بين مختلف المواطنين من الأمور المستحيلة ، ولا تتناغم والنواميس الاجتماعية .
فما دام الإنسان يمتلك عقلا وقدرة على التفكير ، فهذا يعني أنه يمتلك إمكانية الاختلاف في الفكرة ووجهات النظر والمواقف . وليس من الطبيعي لعقول مختلفة في الخلفية والرؤية ، أن تتطابق وجهات نظرهم ومواقفهم على كل القضايا والأمور .
ولكن اختلاف الناس في أفهامهم وأفكارهم وتصوراتهم ومواقفهم تارة يكون سببا أساسيا من أسباب النزاع والتصادم والصراع . إذ يسعى كل واحد بإمكاناته وقواه ، على فرض فكره ورؤيته على الآخرين . والآخرون بما أن أفكارهم ومواقفهم مختلفة ، فهم يقاومون عملية الفرض والقسر هذه . وبهذا تتأسس عملية الصراع في الوسط الاجتماعي .
وتارة أخرى يكون الاختلاف المذكور ، أحد العوامل المساعدة لعملية التعايش الاجتماعي باعتباره هو الخيار الحضاري الوحيد الذي يكفل للمجموع حريته ، ويحترم اختياراته التصورية والفكرية .
وبهذا فإن السلم الاجتماعي ، لا يعني انطباق أفكار وآراء كل المجتمع . وإنما هو احترام الاختيار الفكري الذي التزم به كل واحد ، والعمل على تشكيل مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحترم هذا الاختيار ، وتسمح لجميع الشرائح والقوى الاجتماعية على التعايش على قاعدة المشترك الأيدلوجي والوطني ، مع وجود اختلاف في وجهات النظر ، وتباين في الأفكار والمواقف .