لا اكراه في الدين
محمد محفوظ
نقد الجمود :
إن تبديد غيوم الجمود في المحيط الاجتماعي. بحاجة إلى حركة ذاتية ـ دينامية.. لا تنتظر المحفزات من الخارج. بل ينبغي ان تكون المجتمعات مولدة للاصلاح والتغيير وصانعة له.
ثمة حقائق ووقائع تاريخية. ينبغي استحضارها باستمرار في حركة الوعي المعاصر، حتى يتم الاستفادة منها وتمثلها وتجسيدها في واقعنا المعاصر. ولعلنا نرتكب جريمة كبرى بحق تاريخنا وتراثنا، إذا لم نعمل على استيعاب القيم والدوافع الإنسانية النبيلة، التي وقفت خلف تلك الحقائق التاريخية المجيدة.
ولعل من المسائل الشائكة التي تعترض راهننا. وتبحث عن إجابات واقعية لها. هو كيف ينبغي ان تكون علاقتنا مع حضارة عصرنا.
وبعيداً عن المضاربات الفكرية والايدلوجية، نحن بحاجة ان نستحضر تجاربنا التاريخية في هذا الصدد، لكي نستهدي بها، ونستفيد منها وصولاً لتأسيس رؤية عميقة. تحدد لنا طبيعة العلاقة التي ينبغي ان ننسجها مع حضارة عصرنا.
لهذا فإن السؤال هو: كيف تعامل المسلمون الأوائل مع حضارات عصرهم. وتحديات راهنهم؟.
من المؤكد ان الأمم لا تتمكن من تحديد إجابات وافية على هذا التساؤل الحضاري. إذا لم ترفع ما يحول بينها وبين قوانين الحياة الاجتماعية والتاريخية.
فالأمة التي تزيح عن كاهلها كل معوقات التعاطي الإيجابي مع قوانين الوجود الاجتماعي ستحتل مكان الصدارة، على الصعيدين الاجتماعي والحضاري. لأن كل فضاء معرفي ـ اجتماعي، يملي جملة من التصورات العامة. كما يملي جملة من أدوات التحليل الخاصة.
وإن تحقيق الانتصارات والمكاسب الحضارية في الماضي، لا يجعلنا إذا لم نتشبث بنفس الأسباب والعوامل التي أهلت وأوصلت آباءنا وأجدادنا إلى تلك الانتصارات والمكاسب، نحقق انتصارات راهنة في واقعنا المعاش.
فالإغراق في الماضي يعمي عن تحديات الراهن، ويشكل بشكل أو بآخر وسيلة للهروب من مواجهة العصر وقضاياه. فالمطلوب إذن من أجل حيوية وفعالية، علاقاتنا بماضينا وحضارات عصرنا وتحديات راهننا، هو نقد الجمود، جذوره والانعتاق من آساره وحبائله. لأن سيادة عقلية التقليد الأعمى والجمود والحرفية في المنهج والتفكير، لا يؤديان إلا إلى الذوبان في الماضي وقضاياه والهروب من الحاضر وتحدياته.
وبطبيعة الحال لا يمكن لأمة ان تعيش بلا ماض وتاريخ. ولكن الأمم الحية هي التي تستطيع ان تحدد منهجية واضحة وفعالة في علاقاتها بماضيها، بحيث يكون ماضيها وتاريخها وسيلة للنهوض المعاصر، لا وسيلة للهروب والانزواء عن الواقع.
فإن المهمة الكبرى الملقاة على عاتق الجميع. هي نقد الجمود بقوالبه الفكرية وآليات تأثيره المجتمعي لأنه بوابة العبور إلى علاقة حسنة وإيجابية مع الماضي وحضارات العصر. والجمود الذي نرى ان مهمة الجميع محاربته ومقاومته والخروج من آساره يعني:
1ـ التوقف عن العطاء الحضاري والإنساني والعيش على أمجاد الماضي ومكتسبات الأجيال الغابرة.
2ـ الانغلاق المميت على الذات. ورفض الآخر وإيثار التقليد على الاجتهاد والاتباع على الإبداع.
3ـ سيادة روح الإحجام والبعد عن الإقدام والانجذاب إلى الماضي لا إلى المستقبل ولا يقف الجمود عند حد معين، بل يتعدى ويصل إلى نقص في القدرة على التفكير السليم، ونقص في الشجاعة، وإلى تركيب مجتمعي غير متجانس مع وحدة الشكل الخارجي.
4ـ محاربة وعرقلة المحاولات التجديدية. تحت مبررات ومسوغات واهية. لا ترقى إلى أهمية إحداث تحولات نوعية في مسيرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فليس كل المحاولات التجديدية. تعد تجديفاً في الدين. أو خروجاً عن أصول الممارسة الفكرية السليمة. ولكن الجمود بمتوالياته النفسية والعقلية والسلوكية. هو الذي يقف دون تبني مواقف إيجابية من محاولات التجديد في مسيرة الأمة.
والجمود لا يعبر عن مرحلة تاريخية فحسب، ساد في الأمة وطبع وقائعها كلها بصفاته وآليات تعبيره، وإنما أيضا يعبر عن طبيعة المرحلة الراهنة. حيث إن الكثير من الظواهر السلبية والسيئة في جسم الأمة على مختلف المستويات هو وليد شرعي إلى مرحلة الجهود السائدة.
فانعدام الثقة بالذات أو ضعفها، والغرور والتميز الأجوف والذي يصل إلى حد العنصرية في بعض الأحيان والفصل بين الأقوال والأفعال، بين الظاهر والباطن كلها مظاهر وآثار مترتبة على سيادة حالة الجمود في المحيط المجتمعي.
فالجمود بمثابة البؤرة التي تضخ مختلف أشكال التعويق وانعدام الوزن. وتعطل كل علامات وإرادات النهوض المجتمعي.
لذلك وبسبب ما تضخه عقلية الجمود من تبريرات وما تزرعه في الوسط الاجتماعي من معوقات ذاتية تبقى كل مشاريع التقدم والنهوض ذات طابع فوقي ولا تلامس بشكل جاد جذور الأزمة ومنابع الخلل.
فعلى المستوى الفكري والثقافي تحولت غالبية مشاريع النهضة إلى مشروعات ثقافية انتقائية، تلفيقية متجاورة في ذلك مع كل أفكار التبرير ومشروعات ليس بالإمكان والمقدور.
وعلى المستوى الاجتماعي لم تستطع هذه المشروعات في غالبيتها إلا ممالاة الواقع والتساكن مع عناصره ورموزه.
ولعل الذي أوصل الحالة إلى هذا المستوى هو توفر حالة الجمود في المحيط الاجتماعي. وبقاء أفكار التقدم والنهضة من جراء ذلك ذات طابع نخبوي خاص.
فالجمود بما يشكله من عقلية واستقالة من المسؤولية العامة. وانكفاء على الذات بشكل لا يطاق. يعد هو العقبة الكأداء أمام مشروعات النهوض في العالم العربي والإسلامي.
وعلى ضوء هذا فإن مهمة العالم العربي والإسلامي نقد الجمود بأيدلوجيته وآليات عمله، حتى يتحرر الواقع العربي من آساره.
ونقد الجمود ومحاربة جذوره النفسية والعقلية والاجتماعية، ليست مهمة بسيطة أو وظيفة سهلة، وإنما هي من الوظائف المعقدة، والتي تتطلب الكثير من الجهود والامكانات والطاقات. وتوظيفها الأمثل في إطار محاربة كل عناصر الجمود والكسل العملي والاجتماعي. بمعنى ان إنهاء الجمود من الفضاء الاجتماعي، يتطلب القيام بعملية تغييرية شاملة، بحيث ان النظام القيمي الذي يعطي الأولوية للعمل والسعي والبناء والعمران. هو الذي يسود الفضاء الاجتماعي بكل أبعاده وآفاقه.
ومن أجل تحقيق هذه المهمة نؤكد على النقاط التالية:
تعميق الوعي التاريخي:
ان التاريخ الإنساني يشكل سلسلة مترابطة الحلقات، وسياقاً متواصلاً منذ فجر التاريخ وإلى الآن. لذلك فإن التعاطي مع التجربة الإنسانية والتاريخية باعتبارها مجموعة من القصص المتفرقة أو الأحداث المنفصلة والغريبة عن بعضها. لا تؤدي إلى الفهم السليم لهذا التاريخ ولا تحرر المحيط الاجتماعي من الجمود وسلطته. بينما التعامل مع التاريخ كوحدة إنسانية مترابطة ومتواصلة عبر الزمن. يعمق في نفوسنا وعقولنا الوعي التاريخي والذي يزيل الالتباسات، ويعرّي جذور الخلل الكامن في الجسد الاجتماعي. ويقضي على ما يمكن تسميته بالوعي الطفولي للتاريخ.
فتعميق الوعي التاريخي شرط ضروري للنمو والتقدم وتجاوز معوقات الجمود واليأس.
الحركة الذاتية:
إن تبديد غيوم الجمود في المحيط الاجتماعي. بحاجة إلى حركة ذاتية ـ دينامية.. لا تنتظر المحفزات من الخارج. بل ينبغي ان تكون المجتمعات مولدة للاصلاح والتغيير وصانعة له.
وإن الحركة الذاتية هي التي تفتح أبواباً جديدة لرؤية الراهن وبلورة آفاقه. فإن الإمكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في مقاومة الجمود. إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع. يتحرك بحوافزها ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الامكانات المتوفرة في الإنسان والطبيعة.
القوة النفسية والإرادة الفاعلة:
إذ ان المجتمعات المهزومة نفسياً لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع نقد الجمود وإقصاء عوالمه من التأثير. لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلا إرادة خائبة لا تستطيع القيام بأي عمل. لهذا فإن مقاومة الجمود تتطلب القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة وعزيمة راسخة وتصميماً فولاذياً على تطوير الواقع وتبادل الصعاب ومجابهة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور.
واستطراداً نقول: ان الخطر الحقيقي الذي يواجه الشعوب والأمم ليس في الهزيمة المادية والخارجية بل في الهزيمة النفسية والجمود الذي يسقط كل خطوط الدفاع الداخلية ويمنع من وجود القدرة الطبيعية من إدارة الذات فضلاً عن تطورها.
لذلك فإن نواة التقدم والتنمية هي وجود القوة الاجتماعية المتحررة من قيود الجمود. والتي تعيد للإنسان عافيته وتجعله يقاوم تحدياته بإمكاناته المتوفرة.
في طبيعة المعرفة الدينية :
لعل من الأهمية بمكان، أن نقرر في بداية الأمر، أن المعارف الدينية، التي يستنبطها الإنسان المسلم من النصوص الخالدة، لا تمتلك كمضمون بعيداً عن ظروف الزمان والمكان، وإنما لهذه الظروف الزمكانية، المدخلية الكبرى في تحديد مضمون المعارف الدينية لدى الإنسان المسلم.
وعبر التاريخ الإسلامي الطويل، كان التفاعل الخلاق بين النص والواقع، هو السبب في ديمومة الحياة الإسلامية وخلود قيم الدين في الوسط الاجتماعي. وغياب هذا التفاعل، يعني الانفصال التام بين النص الإسلامي وواقع الإنسان، وهذا مما يؤدي إلى موت الحياة الإسلامية.
وكان دائماً أداة التفاعل، هو عملية الاجتهاد، فهو المشروع الذي أوجده الإسلام وفق ضوابط ومحددات معينة لتجديد حياة المسلمين، انطلاقاً من قيمهم، وخصائصهم العقدية، فالحقيقة كما يعبر عن ذلك (غليون) ليست مفهوماً مجرداً، ولكنها واقع مشخص، يعبر في تشخيصه عن التنوع اللامحدود والتعدد الهائل للصور التي يمكن أن يأخذها تحقيق المفهوم. وليس هناك علم حقيقي، إلا في الكشف داخل هذا المفهوم عن أشكال تحققاته المختلفة، وهذا الاختلاف هو الذي يستحق في نظر الموقف العلمي، أن يكون موضوع النظر والبحث لما يقدمه من مادة للمقارنة التاريخية تسمح لنا بالوصول إلى نظرية علمية حقيقية أي تأخذ بالاعتبار جميع التجارب البشرية.
وينبغي أن نؤكد في هذا المجال أيضاً إننا في ميدان ثقافي – اجتماعي – سوسيولوجي وليس في ميدان الحلال والحرام، بمعنى إننا نبحث في الثقافة والمعرفة التي ينتجها الإنسان المسلم، وهو الإنتاج الذي خضع بشكل أو بآخر لمؤثرات الواقع ومتطلبات الحال. لهذا فإننا لسنا في ميدان التزكية الدينية أو وصف هذا الإنسان بأنه مسلم أم لا، وإنما نحن نتحرك هنا في ميدان المعرفة المنتجة إنسانياً، من خلال الانتماء الموضوعي لجملة من قيم الدين ومعتقداته. ومن الضروري وحتى لا نسيء إلى الإسلام، أو نسمح للآخرين بطريق غير مباشر أن يسيئوا إليه، أن نوجد مسافة بين الدين كقيم ومبادئ عليا، والمعرفة الدينية المتوفرة لدينا كأفراد أو جماعات. وذلك لأن معرفتنا الدينية هي وليد ظروفنا وبيئتنا وبالتالي فإنها خاضعة لشروط الزمان والمكان. بينما قيم الدين العليا خالدة، أي تتجاوز تأثيرات الزمان والمكان. ولاشك أن المساوقة بين الدين والمعرفة الدينية، تؤدي على الصعيد المجتمعي إلى الكثير من المخاطر والالتباسات.
ولعل من الأخطاء الجسيمة التي تواجه العرب والمسلمين اليوم، هي تلك الأجواء المحمومة من التكفير والتكفير المضاد، ولعل انتشار هذا الخطر يرجع بالدرجة الأولى إلى غلبة نمط التفكير الكلامي، الذي يجعل مجرد الاختلاف في العقيدة سبباً كافياً لإطلاق تهمة التكفير.
ويقابل هذا النهج التكفيري نهج الخطأ، الذي يتبعه جل الفقهاء الذين لا يكفرون بعضهم بعضاً، بمجرد الاختلاف في الرأي أو الفتوى، وإنما يُخطأون بعضهم بعضاً. وقد قال المزني سألت الإمام الشافعي عن مسألة من الكلام فقال سلني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت أخطأت، ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت قلت كفرت.
وشتان بين التكفير والتخطيء، إذ يقوم الأول على المراء في الدين، يقسي القلب ويورث الضغائن ذلك المراء الناتج من إدعاء امتلاك الحقيقة المطلقة في أمور الدين، والذي كان سائداً بين أهل الكلام على عتبة القرن الثاني للهجرة.
بينما يقوم التعاطي بين أهل الفقه على الاجتهاد المعترف بإمكان الخطأ، فإن اختلفوا قالوا بالاجتهاد والخطأ ولم يقولوا بالتكفير. فصاحب النهج التكفيري يمتطي حصان الحرب الضروس ويمتشق سيف التكفير، ويقوم بتسليطه على رقاب خصومه من العباد، فإما معنا وإما علينا، ولا حل وسط ولا موقف داعياً للحوار والنقاش للمعطيات الموضوعية، بل تقريع وتقريع مضاد.
ويقول (شيلر) في وصف المنطق القديم: إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة والآراء يجب أن تكون متفقة فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها فأنت هالك. أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك أنك محق إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة، الحقيقة حقيقتك، أو هي بالأحرى أنت إذا جردت نفسك من مشاعرك البشرية.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الكثير من مشكلات العالم العربي والإسلامي الداخلية ناتجة من الانقطاع بين نهج الفقه ونهج الكلام في بحث المسائل العلمية والاجتماعية المختلفة.
وفي محنة آلاف الفقهاء مع الدولة العباسية تأكيد لهذا الانقطاع بين نهج الفقه ونهج الكلام، فقد ظهر بوضوح في تلك المحنة تخلف العباسيين على مواكبة مبدأ الاختلاف الفقهي الذي أقر به كل من الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148هـ) والإمام أبو حنيفة (ت 150هـ) والإمام مالك (ت 179هـ) والإمام الشافعي (ت 204هـ) وكانت وقفة الإمام ابن حنبل (ت 241هـ) الشهيرة رافضاً عقيدة الدولة في ما عُرف بمسألة خلق القرآن على جمهور الفقهاء والمحدثين وقديماً قيل (من لا يعرف الاختلاف لم يشتم الفقه أنفه) فطبيعة المعرفة الدينية نسبية – غير مطلقة. وهذا هو السبب الذي جعل الإمام أحمد بن حنبل يرفض مشروع المأمون عندما أراد أن يحمل الناس على فهم خاص به للإسلام في قضية خلق القرآن. ووفق هذا المنظور رفض الإمام مالك رغبة الخليفة العباسي (المنصور) اعتماد موطئه تفسيراً رسمياً للإسلام، وعلى هذا نجد أن في القرن الثالث الهجري كانت هناك في العالم الإسلامي (19) مدرسة فقهية تساهم وتشارك في إثراء الحياة العلمية والفكرية للمسلمين.
ولقد ارتبط العلم ونتاج العلماء في الدائرة العربية والإسلامية، بالاحتياجات المباشرة للمجتمع وهكذا استجاب البحث العلمي لأغراض التعبئة العسكرية وفي الطب والفلك والكيمياء والصيدلة.
وفي المقابل حينما تتلاشى الحاجة المباشرة للمجتمع، تندثر الكثير من الصناعات والابتكارات وهذا هو ما حدث (كمثال) إلى ابتكارات ابن الرزاز الجذري في صنع وتطوير آلات ميكانيكية للري والزرع ورفع المياه.
وإننا نرى أن البداية الفعلية لعلاج الكثير من المشكلات الذاتية التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي اليوم، هي العمل على إشاعة وسيادة نهج الفقهاء القائم على الحوار والتسامح والمجادلة بالتي هي أحسن والاختلاف والقبول بمقتضياته، والابتعاد عن نهج التكفير والإقصاء والتخوين والنفي، الذي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الأحقاد والضغائن وإشعال الحروب الأهلية، وفي هذا الإطار نؤكد على النقاط التالية:
1) إن العالم العربي والإسلامي، وأمام التحديات العديدة والأخطار المحدقة التي تواجهه هو أحوج ما يكون إلى الوحدة الداخلية القائمة على الإعلاء من شأن ودور القواسم المشتركة والابتعاد عن سلوك القطيعة وتجزئة الأمة الواحدة إلى شيع مختلفة. فبديهيات الدين الإسلامي تلحظ التنوع في داخل الوحدة، ولا تعتبر التنوعات انشقاقاً وتفرقاً بل تعتبر الانشقاق والتفرق جريمة في حق الأمة وجريمة في حق الدين.
فالإنسان المسلم ينبغي أن يتجرد عن أهوائه ونزعاته الذاتية والمصلحية مستوفياً في بحثه عن الحقيقة جميع شروط البحث العلمي الموضوعي، غير متهاون في شيء منها. وبهذا يستقيم أن من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
2) كما يبدو ومن مختلف التجارب الإنسانية الحضارية أن هناك ارتباطاً دائماً بين التقدم والتطور والعمران الحضاري بوحدة الأمة، وارتباط الانحطاط والتخلف الحضاري بالتفرق والاختلاف المذموم. لذلك ينبغي أن نرى في وحدة الأمة ذلك المقدس الذي يرقى إلى مرتبة الأصول، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يؤثر على وحدتها وتنوعاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية، بل تتسع لها جميعاً وتحتضنها في نطاق الاجتهاد الذي يقود فكر الجميع، والذي هو حوار مفتوح بين كل مجتهد وبين الأدلة، وحوار مفتوح بين المجتهد والمجتهد الآخر، وحوار مفتوح بين المدارس الإسلامية كلها.
والكل معذور بقدر إخلاصه لله في النية، وتحريه للحقيقة، واعتصامه من تأثير الهوى، واتقانه للبحث العلمي.
الأمة والعمران الحضاري :
ثمة نزوع فكري ومعرفي في هذه الأيام، يتجه نحو الاهتمام بالمسائل المدنية والأهلية في المجتمعات العربية والإسلامية، وذلك بفعل أن للمؤسسات المدنية الدور الحيوي في مسار بناء الوطن والأمة.
وتاريخياً كان للأمة بمؤسساتها ومنابرها وامكاناتها الأهلية، الدور الرئيس والجوهري في توسيع رقعة الإسلام، وتذليل الكثير من العقبات التي تحول دون استمرار حركة الفتح الروحي والحضاري، واستخدمت في سبيل ذلك وسائل حضارية كالدعوة بالتي هي أحسن إلى الدين الجديد، والتواصل الإنساني، وصناعة القدوة الحسنة، التي تمارس فعلاً دعوياً متواصلاً من خلال سلوكها وحركتها العامة، وفي اطار مشروع الأمة الحضاري، الذي يتجه إلى الأقوام والشعوب الأخرى لإشراكها في عملية العمران الحضاري وفق القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام. ولم تمارس (الأمة) أي فعل عنفي أو لم تستخدم وسائل القهر والبطش في سبيل اخضاع الشعوب الأخرى.
وإنما قامت بنشر العلم والمعرفة بوسائل حضارية، وتحولت بيوتات العلم ومراكز المعرفة في الأمة إلى مراكز إشعاع علمي – حضاري، أخذت على عاتقها تعميم قيم الدين الجديد، وتعريف الآخرين بقيم الإسلام ومثله ومبادئه.
ومنذ انطلاقة الإسلام “سعى لاستيعاب المفاهيم القبلية السائدة آنذاك في الجزيرة العربية، عن طريق توسيعها لتشمل الأمة التي يفترض أن تنمو تدريجياً لتشمل العالم. يعتبر أعضاء القبلية – أنفسهم اخوة على أساس قرابة نسبية يتخذ الإسلام مبدأ الاخوة القبلي منطلقاً لكنه ينسف أساسه البيولوجي ويوسعه ليشمل أعضاء الأمة. هذا التوسيع للمفاهيم يحولها إلى نقيضها، فتصبح منطلقاً لتكوين جماعة واسعة قائمة على أسس إنسانية شمولية، بدل أن تبقى محصورة في الجماعة القبلية الضيقة لكل ما هو خارج إطارها” (راجع الأمة والدولة – الفضل شلق ص201/200).
وبهذه الطريقة حقق الإسلام تحولاً نوعياً في الواقع المجتمعي، إذ تم صهر كل العناوين الفرعية في دائرة الأمة (مع احترام كامل للخصوصيات الذاتية) وتم تأسيس التجربة الحضارية على قاعدة الأمة الجديدة. فالأمة في التجربة الحضارية الإسلامية هي الأداة الكبرى لانجاز مشروعات الإسلام الحضارية. فهي التي أوصلت الإسلام إلى أصقاع المعمورة، وهي التي احتضنت العلماء الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية الدعوة والإرشاد. وهي التي أبدعت وسائل عديدة لاستمرار مشروعات صناعة الخير على مختلف الصعد والمستويات، وهي التي أمدت مشروعات الفتح الحضاري بالكفاءات البشرية المؤهلة والقادرة على ممارسة دور متميز في هذا المجال. فمن مؤسسات الأمة العلمية، برز آلاف العلماء والفقهاء، الذين مارسوا أدواراً جوهرية وحاسمة في عمليات البناء والنهضة، ومن مؤسسات الأمة الخيرية والأهلية والتطوعية، تم توفير كل مستلزمات الانطلاق في رحاب المعمورة، ومن بركات هذه المؤسسات تمت رعاية واحتضان كل الحلقات الضعيفة في المجتمع والأمة.
لهذا نجد أن التوجيهات الإسلامية العامة والتكاليف الاجتماعية والحضارية التي أرسى دعائمها الدين الإسلامي لم تتوجه إلى آحاد الأمة، وإنما هي توجهت وبشكل مباشر إلى الأمة.. وكل التكاليف العامة والموجهة إلى الأمة ككل هي من قبيل الواجبات الكفائية الموجهة إلى كل الأفراد ومن كل المواقع، ويسقط هذا الوجوب الكفائي حين يتم تنفيذه من قبل بعض الأمة. أما إذا توانى الجميع، فإنهم جميعاً آثمون في المنظور الإسلامي.
ولكيلا يكون كلامنا مجرداً بعيداً عن الوقائع، نأتي بأمثلة قرآنية، لكي تتضح حقيقة أن التكليفات العامة والحضارية هي موجهة في الخطاب القرآني إلى مجموع الأمة وليس لآحادها.
قال تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران آية 110).
وقال تعالى {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى آية 38).
فالقيم الكبرى التي هي جسر المجتمع إلى الحضارة والتقدم إنجازها ليس مسئولية فردية أو مرتبطة بشريحة اجتماعية محددة، وإنما هي مسئولية الجميع، وينبغي أن تبذل جموع الأمة كل الجهد في سبيل انجاز تلك القيم وتحقيقها في الواقع الخارجي، لأنها الطريق الموصل إلى الحضارة والتقدم.
فالأمة في النص والتجربة التاريخية الإسلامية لها الدور المركزي في الحياة الحضارية للمسلمين. إذ ان أكثر المؤسسات والأطر في تاريخ التجربة الإسلامية تنتمي إلى الأمة وتستند إليها في أنشطتها وأعمالها.
وإن تغييب الأمة من الفعل الحضاري حرم المجتمع الإسلامي من مصادر قوته وعزته وتطوره، وأتاح المجال لعوامل خارجية من اختراق الجسم الإسلامي، والتحكم في مستقبله ومصائره. “وإن ما يحرك العرب ويعبر عن مزاجهم التاريخي هو مفهوم الأمة، والأمة موجودة في وعيهم سواء توحدوا أم لم يتوحدوا وسواء وجدت الدولة الواحدة أم لم توجد. هم يعلمون أن الوحدة ضرورية، وبدونها يبقى مفهوم الأمة متحققاً على الصعيد الثقافي فحسب. كما يعلمون أن الدولة ضرورية أيضاً لأنها تنقل وجود الأمة من الصعيد الثقافي إلى الصعيد السياسي، فهي الأداة التي تحقق الأمة بها وجوداً فعلياً يساعدها على ممارسة دعوتها التي تخرجها من الحيز القومي الضيق إلى مجال أرحب وأوسع هو العالم والكون بأسره.. الأمة تقود إلى الوحدة، والوحدة تقود إلى الدولة، لكن وجود الأمة لا يتوقف على تحقق الوحدة بل إن وجود الأمة هو الشرط الضروري لكل ما عداه” (راجع مجلة الاجتهاد العدد الثاني عشر – ص 14- 15).
فالأمة في المجال الحضاري الإسلامي هي المجال الحيوي الذي يتحرك فيه المسلمون لتنمية قدراتهم وتطوير أوضاعهم والتواصل مع العالم. والحقيقة المجتمعية المطلقة في الإسلام، هي حقيقة الأمة التي كونها الإسلام وتكونت به، وصنعت تاريخها به. وتاريخ الإسلام في الحقيقة إذا حذفنا منه تاريخ الأمة لا يبقى للآخرين أو الأطراف الأخرى شيء على الإطلاق، ومن خلال القيم الكبرى التي أرسى دعائمها الدين الإسلامي كقيم الاخوة والمساواة والتعاون والتكافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومؤسسات العلم والمعرفة، وجهود العلماء والمفكرين والمصلحين.
من خلال هذه القيم والمؤسسات كانت الأمة تؤكد ذاتها، وتعمل على تنفيذ مشروعها الحضاري، وتعمل على تحصين كيانها في مواجهة أخطار الانحراف القادمة من الداخل والخارج.
فالأمة في التجربة التاريخية الإسلامية، هي التي صنعت الحضارة ورعتها وطورتها. ومن هنا من الضروري أن يتم الاعتناء بمؤسسات الأمة، لأنها سبيل تفجير الطاقات والقابليات المجتمعية، واحتضان الكفاءات العلمية والأدبية والارتفاع بالواقع المجتمعي إلى مستوى متقدم ليصل فيه المجتمع للاعتماد على نفسه ليواجه أعباء الحياة. ولهذا كان المشروع الثقافي الإسلامي الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يولد في حياة كل إنسان مسلم جدلية تاريخية بين الإسلام والعالم، بحيث يصبح هذا الإنسان حاملاً لمشروع تغيير العالم. وكان هذا هو جوهر مشروع الأمة الثقافي لذاتها وللعالم. فهو مشروع يسعى نحو تنظيم الواقع الإنساني بما يتطابق مع مضمون الإسلام وقيمه الخالدة.. وبالتالي جعل حركة الإنسان منسجمة والقيم الإسلامية.
وبالتالي فإن الأمة بمكوناتها وامكاناتها وآفاقها، هي صاحبة الصوت الأعلى في مشروع العمران الحضاري، وان علينا فتح عقولنا وكياننا على آفاق هذه العملية، ليست لأنها تنسجم وتاريخنا فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير.
الأمة والقوة الثقافية :
إن القوة الثقافية، لا تعني جملة المظاهر الثقافية والاحتفالية، وإنما هي بناء الإنسان المثقف الواعي، القادر على المساهمة في بناء وطنه وعزة أمته والمدرك لموقعه التاريخي. فلا قوة ثقافية بلا إنسان أو محيط مثقف
إن الثقافة كائن حي يتطور باستمرار، ويتكيف بشكل إيجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة. وفي الدائرة الإسلامية نجد أن الدين الإسلامي الحنيف أسس باباً ثابتاً لاستيعاب التطورات والمتغيرات وهو باب الاجتهاد. وقد أوجد له شروطاً ومرتكزات أساسية، حتى يضمن سلامة التطور ومواءمة للثابت الإيدلوجي والثقافي.
ويمكن القول أن إغلاق باب الاجتهاد، كان بداية انغلاق المجتمع العربي – الإسلامي عن العالم، وانتشار الخرافات والأساطير التي ليست من الإسلام في شيء.
وبهذا فقد العالم العربي والإسلامي القدرة الكافية لتطوير أوضاعه وإنهاء أزماته. فأصبح المجتمع العربي والإسلامي يعيش الازدواجية والثنائية في كل شيء.
تراث ليس بمقدور الأمة استنطاقه بما يتناسب وتطورات العصر، ومكتسبات حضارية وتقنية ليس بمقدور الإنسان الاستغناء عنها، وأصبحت الأمة تعيش في هذه الدوامة والحلقة المفرغة دون نتيجة تذكر، وفي هذا الوقت بالذات كان العالم الأوروبي يشق طريقه نحو التقدم والتحضر، وإنهاء مخلفات القرون الوسطى ومع تراكم التطور الغربي، وتحقيقه منجزات هائلة على صعد ومستويات مختلفة. ومع سيطرة هذه الدول على المعارف والتقنية الحديثة، بدأت أبواب الدول النامية لتنفذ منها قوة الغرب الطاغية، وإنجازاته المعرفية وقيمه الاجتماعية والأخلاقية.
لذلك فإننا اليوم نواجه حرباً حقيقية غير معلنة بسبب هذه الثقافات الدخيلة التي تغزو مجتمعاتنا لتحطم ذاتنا وقيمنا تحت شعار الحضارة والمتعة الجمالية والحاجة الاستهلاكية من شأنها جميعاً تحويل العقل والذوق والتنفس والذات عن مجراها الطبيعي إلى مجرى آخر مماثل لمجرى الثقافة الغازية وقيمها.
ما المخرج إذن؟
إنه بكل تأكيد لا يمكن أن نلقي أنفسنا في أحضان القوة الثقافية الغالبة والانصياع لمنطقها الطاغي.
إن المخرج هو المجابهة، وهي تعني بناء قوة الوجود الثقافي الذاتية التي تقوى لا على المقاومة والصمود فحسب وإنما على الاندفاع والملاحقة والفعل المؤثر.
وانطلاقاً من بناء هذه القوة الثقافية، تبدأ قطاعات الأمة ببلورة وتأسيس الحوامل التاريخية والاجتماعية لنهوض ثقافي، يثبت حضوره الإيجابي والفعال عبر إمكاناته الذاتية والتفاعل المحمود مع الثقافات والحضارات الأخرى.
ونحن ننطلق من هذه الحقيقة، بإعتبار أن الكثير من المشروعات الثقافية والفكرية في الأمة، التي انطلقت من عنصر واحد ابتليت بحالة من الاستغراق المتنامي والمتعاظم في عمليات التماهي الكلي مع السياقات الرمزية المنسجمة وذلك العنصر.
والنتيجة هي انشطار المجتمع تحت عناوين ومسميات مختلفة وتحت وطأة هذا الانشطار تتبدد الطاقات وترتكب الأخطاء ويذوب سلم الأولويات وتبدأ المشروعات بلباس أردية لمشاكل مستعارة ولبدائل جاءت وفق السياق التاريخي والاجتماعي لمجتمع غير مجتمعنا ولأمة غير أمتنا.
ورؤية عميقة للكثير من معاركنا وأزماتنا، نرى بوضوح أن الخلفية التي انطلقت منها هذه المعارك والأزمات، هي حالة الانشطار الذي أحدثته المشروعات في الأمة، بينما بناء قوة الوجود الثقافي الذاتية ينسجم والخصوصيات الاجتماعية والظرفية لواقعنا، ويشكل المسار التاريخي الذي يعبر عن التطور الهيكلي للأمة.
وبالتالي فإن المجتمع لا يتمكن من صيانة وحدته وإرادته واستمرارية فعله الجماعي، وتحمل مسئولياته، بدون القوة الثقافية الذاتية، لهذا فإن الوجود الثقافي هو الذي يخلق شروط الانسجام للعلاقات الاجتماعية ويذوّب كل عوامل التشتت الاجتماعي، ويؤسس إمكانية التقدم والتطور.
وبهذا يتم استخدام وتوظيف جهود الأمة المختلفة في إطار طموحاتها وتطلعاتها المشروعة، ونتجاوز من خلال التنفيذ والممارسة العراقيل والمعوقات، ونؤكد سبل التفاهم والتواصل والتكامل في داخل الأمة.
كل هذه الأمور تحفزنا للبحث عن القوة الثقافية الذاتية وإبراز مضامينها وتطلعاتها، فهي طريق مقاومة التحديات ومواجهة التهديدات المتجهة إلى واقعنا ومستقبلنا، وبناء القوة الثقافية الذاتية، ليس خياراً هلامياً أو بعيد المنال، وإنما هو عبارة عن الآتي:
1) فسح المجال لكل التعبيرات الثقافية والأدبية، والتي هي جزء لا يتجزأ من مفهوم الثقافة الذاتية، حتى تباشر دورها التنويري وإقصاء هذه التعبيرات يعني على المستوى الفعلي، وجود مساحات اجتماعية، لا تتوجه بعناصر وتوجيهات الثقافة الذاتية، مما يجعلها عرضة إلى الثقافات الوافدة.
فأفضل وأنجح وسيلة لمجابهة الثقافات الغازية، هو توفير الأرضية المناسبة لمشاركة كل تعبيرات الثقافة الذاتية لأن هذا خيار استيعاب المساحات الاجتماعية المتعددة.
2) ان القوة الثقافية ليست مفهوماً ناجزاً وإنما هي إطار مفتوح يستوعب كل طاقات وقدرات وإبداعات أبناء الأمة. فمن خلال عملية الاستيعاب الرشيد يتجسد مفهوم القوة الثقافية في الواقع الخارجي.
لذلك فلا قوة ثقافية بدون قوة إنسانية وموضوعية لاستيعاب طاقات الأمة وإمكاناتها الثقافية، وجعلها تتجمع وتتجه في أطر محدودة ومعالم واضحة.
فهذه القدرة الإنسانية والموضوعية، هي جسر بناء مفهوم القوة الثقافية في الأمة.
وبهذا المعنى يتساوق مفهوم القوة الثقافية مع الحيوية والفعالية والإبداع ، وكل المفاهيم التي تزيد من فعالية الثقافة في المحيط العام.
3) إن القوة الثقافية، لا تعني جملة المظاهر الثقافية والاحتفالية، وإنما هي بناء الإنسان المثقف الواعي، القادر على المساهمة في بناء وطنه وعزة أمته والمدرك لموقعه التاريخي. فلا قوة ثقافية بلا إنسان أو محيط مثقف، فهو منبع التجليات الثقافية وصانع المظاهر الاحتفالية، وبدونه تبقى الثقافة وكأنها شأن مجرد لا شأن لها بمصير الأمة ومستقبلها.
فالقوة الثقافية تعني المزيد من العمل الوطني، لخلق الأجيال الواعية والطاقات المثقفة، التي تحمل على عاتقها مسئولية التطوير الثقافي والاجتماعي.
بهذه العناصر تتمكن الأمة، من مقاومة تهديدات الثقافات الوافدة ومواجهة الأخطار المحدقة بثقافتها وقيمها، وذلك لأن هذه العناصر تصنع ظروفاً ومحيطاً يتجه إلى الفعل والإبداع وصناعة البديل، بدل الصراخ والضجيج والعويل.
فالصراخ لا يمنع تسرب عناصر الثقافات الوافدة إلى جسم الأمة، وحده بناء الوجود الثقافي الذاتي الفاعل والمبدع، هو خيار الأمة الاستراتيجي لمواجهة تحديات العصر الثقافية.
لا اكراه في الدين :
ثمة علاقة دقيقة وعميقة تربط بين قدرة الانسان على التفكير واستقلاله فيه، وبين قيمة الحرية وممارسة مقتضياتها.
فالانسان الذي يمتلك امكانية التفكير المستقل، هو ذلك الانسان الذي يستطيع استعادة حريته وانسانيته، ويستثمر طاقاته وامكاناته في سبيل تكريس نهج الحرية في الواقع الانساني. فاستعادة الحرية بكل متطلباتها وآفاقها، تبدأ من الانسان نفسه، فهو الذي يقرر قدرته على التحرر والانعتاق او خضوعه واستغلاله واستبعاده لمراكز القوى. وذلك لأن التفكير السليم، هو الشرط الاول للقوة في الحياة. من هنا ركز القرآن الحكيم على ان الايمان بالله يعطي صاحبه التحرر، والتحرر يعطيه القوة (التمسك بالعروة الوثقى) والعلم (يخرجه من الظلمات الى النور). ولكن أي ايمان هذا الذي يعطينا القوة والعلم. انه الايمان الواعي، لا الايمان المكره عليه فهو الآخر نوع من الاستعباد والخضوع للقوة المادية.
من هنا تحدث القرآن في بداية الحديث عن الحرية الدينية وقال (لا اكراه في الدين). فجذر الحرية، هو ان يتحرر الانسان من كل الضغوطات والاهواء والشهوات، التي تدفعه الى الانسياق وراءها. فحينما يغمر الايمان بالله عز وجل قلب الانسان، ويتواصل بحب واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الانعتاق من كل الاشياء التي تناقض حرية الانسان. فطريق الحرية الانسانية الحقيقة، يبدأ بالايمان والعبودية المطلقة للباري عز وجل. وذلك لأن كل الاشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه، لأن الاشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الانسان عن الله في أي عمل يخفيه، او سر يكتمه او خطأ يستره، لأن الاخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور.
ولعل هذا الاحساس هو الذي يتعمق في وعي الانسان من حركة ايمانه فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.
من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الاكراه والسيطرة، ودعت الرسول صلى الله عليه وسلم الى التحرك في اجواء الابلاغ والاقناع وحركة حرية الفكر والتعبير. اذ قال تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.. (الكهف، الآية 29)..
وقال عز من قائل {فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر}.. (الغاشية، الآية 22).. وقال تبارك وتعالى {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.. (يونس، الآية 99)..
وقد تحدث الأستاذ (جودت سعيد) في كتابه (لا اكراه في الدين – دراسات وابحاث في الفكر الاسلامي) عن مجموعة من الفوائد من آية (لا اكراه في الدين) منها:
1- إنها في ظاهرها حماية للانسان الآخر من ان يقع عليه الاكراه من قبلك، ولكنها في باطنها حماية لك ايضاً من ان يقع عليك الاكراه، فهي حماية للآخر وحماية للذات من ان يقع على كل منهما الاكراه.
2- يمكن فهم هذه الآية على انها اخبار وليس انشاءً، أي يمكن ان تفهم على انها نفي وليست نهياً، ويكون بذلك معناها اخباراً بأن الدين الذي يفرض بالاكراه لا يصير ديناً للمكره فهو لم يقبله من قلبه، والدين في القلب وليس في اللسان. فهي بهذا الشكل اخبار بأن الدين لا يتحقق بالاكراه ومن يكره انما يقوم بعمل عابث لا اصل له.
هذا معنى الآية حينما نفهمها على انها اخبار وليس انشاءاً او امراً، كما يمكن ان نفهم الآية على اساس الانشاء أي ان تفهم على انها نهي عن الاكراه، لأنه لا يليق بالعاقل ان يقوم بعمل عابث، ولأن فرض الايمان والدين بالاكراه عبث فجدير ان ينهانا الله عنه، فيكون المعنى نهياً عن ممارسة الاكراه للآخر، ونهياً ايضاً لنا عن ان نقبل الاكراه والخضوع له.
فرشد الانسان فرداً ومجتمعاً، هو من جراء التزامه بحريته واحترامه التام لحريات الآخرين. فحينما تنتفي كل الضغوطات والاكراهات، يتحقق مفهوم الرشد في الواقع الخاص والعام..
فالحرية بكل ما تحمل من معان انسانية نبيلة وقيم تعلي من شأن الانسان وكرامته، وتحميه من كل نزعات الاستفراد والاقصاء والنبذ والاكراه، هي بوابة الرشد ووسيلته في آن. وهي التي تخرج الانسان من الغي وتخلق حقائق الاستمساك بالعروة الوثقى.
والمجتمع الذي يمارس حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن كل اشكال الاكراه والعنف، هو المجتمع الرشيد الذي يدافع عن حقوقه ومكاسبه بالحرية. وبها ايضاً يصون حرمات الآخرين ومكاسبهم.
والتاريخ يحدثنا ان كل من يمارس الاكراه والعنف للدفاع عن ذاته، لا ينجز مراده ولا يحقق هدفه، بل ترتد عليه هذه الممارسات اكثر سوءاً ويدخل في اتون النزاعات والحروب والعنف والعنف المضاد.
إن الاتحاد السوفيتي لم يستطع ان يحمي ذاته من التشرذم والانقسام والتلاشي، مع العلم انه يمتلك اعتى الاسلحة واطورها. فهذه الاسلحة الفتاكة لم تمنع الشعوب المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي من النهوض ورفض كل اشكال القهر والاكراه.
فالحضارات لا تبنى بالاكراه، كما ان الافكار لا تنتقل بالقسر والاكراه. فما اكثر الامبراطوريات التي انهارت وتلاشت واصبحت في ذمة التاريخ، بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والاكراه. وفي المقابل نجد ان هناك امماً ودولاً صمدت في وجه كل عمليات القمع والقسر والاكراه، لأنها تدير شؤونها وتسير امورها بحرية وديمقراطية، وبعيداً عن كل اشكال القهر والاكراه.
فالحياة دائماً لكل امة ومجتمع يدار بالحرية، وينبذ الاكراه بكل صنوفه واشكاله ومستوياته. ويرتكب حماقة تاريخية كبرى كل من يسعى الى ادخال غيره في دينه او مذهبه او حزبه بالارغام والاكراه.
لذلك فإن الحرية من القيم الاساسية في حركة الانسان الفرد والجماعة، وبها يقاس تقدم الامم وتطورها. اذ لا يمكن ان يتحقق التقدم إلا بالتحرر من كل معوقاته وكوابحه. والحرية هي العنوان العريض للقدرة الانسانية على ازالة المعوقات وانجاز اسباب وعوامل النهوض والانعتاق.
لذلك نجد ان الانبياء جميعاً حاربوا الاستبداد والاكراه، ووقفوا في وجه الفراعنة، وعملوا من مواقع مختلفة لارساء دعائم الحرية للانسان. ولقد فك الانبياء جميعاً العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الافكار من معركة الاجساد، والله تعالى حمى الاجساد من ان يعتدى عليها من اجل الافكار، فلم يعط لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته. وفي سبيل نيل الحقوق والحريات، لم يشرع الله سبحانه وتعالى للانبياء ممارسة الاجبار والاكراه، وانما حدد مهمتهم ووظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والتبشير والنذير.
فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية – سلمية، بعيدة كل البعد عن كل اشكال الضغط والقوة والاكراه.
وعلى هدى هذا نقول: انه لا يجوز التضحية بحريات الافراد تحت مبرر معارك الخارج وتحدياته الحاسمة. اذ انه لا يمكن ان نواجه تحديات الخارج بشكل فعال، إلا اذا وفرنا الحريات والحقوق لجميع المواطنين.
ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول بأن مجالنا العربي والاسلامي في العقود الخمسة الماضية قد قلب المعادلة. اذ سعت نخبته السياسية السائدة، الى اقصاء كل القوى والمكونات تحت دعوى ومسوغ ان متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني، تتطلب ذلك. واصبح شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا اليها جميعاً حاكماً ومحكوماً، ان هذا الخيار السياسي لم يوصلنا إلا الى المزيد من التدهور والانحطاط، وبفعل هذه العقلية اصبح العدو الصهيوني اكثر قوة ومنعة، ودخلنا جميعاً في الزمن الإسرائيلي بكل تداعياته الدبلوماسية والسياسية والامنية والثقافية والاقتصادية.
فتصحير الحياة السياسية والمدنية العربية والاسلامية، لم يزدنا إلا ضياعاً وتشتتاً وضعفاً. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية. لذلك آن الاوان بالنسبة لنا جميعاً ان نعيد صياغة المعادلة. فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني، إلا بارتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية. فارساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الانسان. كل هذه الممارسات والمتطلبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية. وانتصارنا على العدو الخارجي، مرهون الى قدرتنا على انجاز هذه المتطلبات في الداخل العربي والاسلامي. فالاكراه الديني والسياسي، لا يصنع منجزات تاريخية، وان صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء متواليات الاكراه وامتهان كرامة الانسان.
فآراء الانسان مصونة، بمعنى ان الانسان لا يقتل بسبب آرائه وافكاره. والآراء والافكار والقناعات، لا تواجه بالقوة المادية او استعداء الآخرين، وانما بالرد الفكري والحوار المتواصل وبيان اوجه الخطل والضعف في الآراء المتداولة.
لذلك كله فإن الحرية قبل ان تكون اشكالاً سياسية ونصوصاً دستورية، هي خروج كل فرد فينا عن انانيته وافقه الضيق ومغادرة تلك الافكار الاحادية والاقصائية والاستغنائية، التي لا تزيدنا إلا بعداً عن الديمقراطية ومتطلباتها الفكرية والمجتمعية.
لذلك فإن النواة الاولى للاستقرار والتطور، هي الاحترام العميق للآخرين مشاعر وافكاراً ووجوداً، ومساواة الآخرين بالذات، ونبذ كل اشكال ممارسة الاكراه.
وإننا اليوم وفي كثير من مواقعنا، احوج ما نكون الى رفع شعار (لا اكراه في الدين) والعمل على تحويله الى مشروع مجتمعي ينظم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويرفع الغطاء الديني عن كل الممارسات العنفية والارهاية، التي لا يقرها عقل ولا دين ولا تنسجم وثوابت الامة.
فلننبذ من فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي، كل الممارسات الاكراهية والاقصائية، ونبني راهننا على اسس الحرية واحترام التعدد والتنوع، ونفسح له المجال لممارسة دوره ووظيفته في البناء وتعزيز خيار السلم والتعايش الأهلي.