في رحاب دعاء الإمام الحسين صبيحة عاشوراء (٧)
السيد فاضل آل درويش
الجانب الروحي والعرفاني عند الإمام الحسين (ع):
الإمام الحسين (ع) صاحب النفس المطمئنة الواثقة بوعد الله تعالى وتدبيره عندما تقبل الدنيا أو تدبر وتعطي ظهرها، والالتصاق بجناب العظمة والجمال الإلهي يجعل من الدعاء ومناجاة الباري جانبًا مهمًا في بناء النفس، فالجانب الروحي والعرفاني يتجلى في تلك المقاطع من الأدعية المظهرة للمعرفة التوحيدية عنده (ع) كما في دعائه في عرفة وكذلك هذا الدعاء صبيحة يوم عاشوراء، فلا يرى (ع) مصدرا للاقتدار والسيطرة وتصريف مجاري الأمور إلا بيد الله تعالى، ويبقى المخلوق محدود السلطة والقوة ويغلفه الضعف الحقيقي في بدنه وعواطفه ونفسه، وهذا الكون وكل ذراته وأجزائه ناطقًا بالنظام الدقيق الذي يجري وفق الحكمة الإلهية، فكيف يمكننا الثقة والارتكان لشيء في هذه الدنيا وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، والإمام الحسين (ع) مصدر خشيته من الله تعالى هو المعرفة التوحيدية التي تملأ وجدانه وفكره وتنعكس على مواقفه وكلماته.
وفي عصر يوم تاسوعاء من المحرم لما عزم القوم على قتاله (ع) طلب المهلة سواد تلك الليلة (ليلة العاشر)، والسبب لهذا الاستمهال الزمني هو أداء حق رب العالمين من العبودية المطلقة له، إنه (ع) يريد أن يحيي آخر ليلة له في هذه الدنيا الفانية بالصلاة والدعاء وذكر الله تعالى، ورد أنه قال (ع) لأخيه العباس (ع): فقال: ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني كنت قد أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار)(بحار الأنوار ج ٤٤ ص ٣٩٢).
الإمام (ع) يعطينا فهمًا حقيقيًا للعبادة ويفصح عن المضامين العالية لها، بما يبين أنها الزاد الروحي الذي لا غنى للمرء عنه في أي لحظة وإلا أدى إلى الوفاة المعنوية، فالعبادة هي المهمة الأولى والهدف الأسمى من وجودنا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }{ الذاريات الآية ٥٦ }.
فهي الطريق إلى شكر المنعم على ما وهبنا من نعم لا تعد ولا تحصى، ولا يوجد في هذه الدنيا من متاع وزينة ما يستحق إشغال الوقت والجهد به فهي دنيا فانية وسيرحل منها المرء يومًا ما ولن يخلد فيها، كما أن الدنيا في النظرة الدينية ما هي إلا ممر وطريق لدار الخلود الأبدية وهي الدار الآخرة وعليه تكوين زاده الأخروي من أعمال صالحة، فهناك من اتبع هواه وفقد تحكم العقل الرشيد في خطاه، مما جعله حريصًا على زخارفها وكل همه ومبتغاه وهدفه في الحياة الاستزادة من تلك المظاهر الخداعة، وأما من فهم حقيقة دوره الوظيفي في هذه الحياة مآزرا تلك المعرفة بإدراك أن له أجلًا محددًا لا زيادة ولا نقصان فيه، ومن بعده يرحل إلى العالم الأبدي الذي يستحق أن يعمل من أجل توفير معالم الراحة والنعيم فيه، ولا يحصل على ذلك إلا بعمله الصالح في الدنيا، الذي يشكل زاده المدون في صحيفة أعماله يوم توزن في ميزان العدالة الإلهية، مثل هذا الإنسان الواعي لا مخافة عليه من تغلغل حب الدنيا في قلبه.
التهيؤ والاستعداد من علامات المرء العاقل الذي يضع رجليه على أرض الواقع بعيدًا عن الوهم والمثالية والكسل، فالحياة قطار يركب فيه قوم ويصحبهم إلى المحطة الأولى لينزل بعض ويصعد آخرون، هذه حركة وحكاية الحياة والرحيل لكل فرد منا، ولكن حب الدنيا والالتصاق بها والتمتع بالشهوات والملذات يغيب عن أذهاننا هذه الحقيقة، فنحيا – قد غمرتنا سكرة الغفلة – وكأننا مخلدون لا فراق لنا لهذه الدنيا حتى يداهمنا الرحيل دون سابق إنذار، أليس من النضج والرشد في مثل هذا الواقع والحقيقة أن نصنع من أعمارنا المجهولة الأمد مضمارًا نستثمر فيه قدراتنا العقلية والمهارية وننميها حتى نظفر بالإنجاز والنجاح والسعادة الأبدية في الدارين.
و هكذا نجد أن هذا الجانب العرفاني وانكشاف الحقائق ورؤية الدنيا بوجهها الباطني لا الظاهري هو ما جعل أصحاب الإمام (ع) بهذا المستوى من القوة النفسية والشجاعة في المواقف والبذل والتضحية على أعلى المستويات، فالموت في نظرهم وسام شرف إن كانت خاتمة حياتهم الشهادة في سبيل الله تعالى، ولا يستحق التهديد به أن يتخلى المرء عن قيمه ومبادئه ليتحول إلى مسخ إنساني.