في رحاب دعاء الإمام الحسين صبيحة عاشوراء (٨)
السيد فاضل آل درويش
الإقبال على الله تعالى:
أي مشهدية في الإقبال على الله تعالى والالتجاء إليه وكل الأمور من حوله تشي وتنذر بحدث جلل لا يفصلهم عنه سوى ساعات قليلة، ومع ذلك تجد الإمام الحسين (ع) و أصحابه يغمر قلوبهم حب الله تعالى وحب التقرب إليه بمختلف العبادات، بما يذكر بأن هذه الدنيا لا تساوي عفطة عنز كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) فهي أشبه بمحطة قطار ينزل فيها أناس ويرحلون ويركب آخرون، وقيمتها الحقيقية أنها ميدان ومضمار للعمل الصالح وصنع المعروف، والقلب العامر بذكر الله تعالى لا يأبه بالشدائد ولا تضعفه أبدًا عن الهدف الأسمى وهو العبادة.
في اليوم العاشر من المحرم وبعد أن نشبت المعركة القاسية واستشهد من استشهد ويحين وقت صلاة الظهر، يطلب الإمام (ع) من أعدائه أن يتوقفوا عن القتال لمدة قصيرة، والغاية من ذلك أن يقف بين يدي الله تعالى ويؤدي فرض الصلاة فهو أهم شيء عنده في هذا الوقت، وهذا كاشف عن عمق علاقة الإمام الحسين (ع) بالله تعالى والطمع في أداء حق الشكر للمنعم عز وجل، فمن أراد كاشفية عن مدى علاقته بالله تعالى واستعداده للآخرة فلينظر لتعاهده لفروض الله تعالى وحرصه على إقامتها بحدودها وشرائطها ومدى انعكاسها على وجدانه وسلوكياته، فمن كان مع الله تعالى حقًا تراه يطلب الهدوء النفسي والتوازن الفكري والانفعالي من خلال اتصاله بالله تعالى والوقوف بين يديه، حيث يجد راحة نفسية تنشط قواه وترفع مستوى جهوزيته لمقابلة التحديات والصعاب، كما ورد في سيرة الرسول الأكرم (ص) عندما كان يحزبه شيء ( أي يصيبه بالهم ) ينادي بلالًا (رض) قائلًا: أرحنا يا بلال )( بحار الأنوار ج ٧٩ ص ١٩٣ ).
المعسكر الحسيني كان على أعلى درجات الفضيلة والتكامل الإنساني ورفعة الشأن الأدبي والأخلاقي والسحر البياني في المنطق، وإيثارهم ذكر الله تعالى على كل شيء من متع الدنيا الزائلة هو ذلك السر في شموخهم وتحررهم من أغلال الشهوات والأهواء، فلا لغة الترغيب والوعود بحياة فارهة رغيدة يمكنه أن يزحزحهم عن مواقفهم وتمسكهم براية الحق والفضيلة، ولا لغة التهديد والوعيد يمكنها أن ترهبهم وتؤدي إلى ضعفهم وتراجعهم، هذه الصلاة الواعية والخاشعة والانقطاع إلى الله تعالى خلق منهم نماذج تختلف تمامًا عمن تشترى ذممهم بعروض يسيل لها اللعاب من مال وجاه. صلاتهم الخاشعة هي السر في مواقفهم البطولية التي سطروا من خلالها أروع وأعظم الملاحم الاستبسالية، فقلة عددهم وكثرة عدوهم لم تكن في حسابات قراراتهم حيث أن غيرهم يتحول إلى موقف آخر كالمهادنة أو الانسحاب والتخاذل، حساباتهم كانت أخروية وناظرة للتكليف الشرعي وطلب مرضاة الله تعالى، رجال عاهدوا الله تعالى أن يكونوا في محور إرادته ولا يحيدون عنها مهما كان ذلك التكليف في ثمنه ومتاعبه، وإلا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك فريضة إلهية جعلها الإمام الحسين (ع) هدفًا رئيسًا ومحور حركته ونهضته، وهذا المبدأ جزء من مكنونات شخصيات أصحابه قبل واقعة الطف ولا يمكنهم القبول بالواقع المحالف للمنكرات، ولهذا لم يكن بالغريب منهم القبول في الانخراط في حركة الإمام الإصلاحية مع معرفتهم المسبقة بالنتائج الظاهرية لها، ولكنهم آمنوا بوعد الله تعالى بتخليد مواقفهم وجعلها محورية في وجدان الناس يتفاعلون معها ويجعلونها قدوة لهم، وفي الآخرة يجزيهم الباري خير الجزاء على نصرتهم لدينه ولويه في وقت عز فيه الناصر وكثر فيه المتخاذلون.
الإمام الحسين (ع) في دعائه صبيحة يوم العاشر من المحرم يؤكد على المباديء التي سار عليها طوال عمره، وها هو في اللحظات الآخيرة منه يظهر ثباته واستبساله في الوقوف في وجه الظلم والفساد، لقد هانت الدنيا وزخارفها في عينه وعظم الخالق في بصيرته وقلبه فكان نتيجة ذلك هذا الموقف البطولي الخالد، قلبه يحذوه الشوق لذكر الله تعالى ويريد أن يكون الانقطاع إليه في الذكر هو عنوان خضوعه التام للقضاء الإلهي، فأقبل رافعًا يديه يتضرع إلى الله تعالى ويبتهل إليه بأن يرزقه تحقيق الفتح والنصر المعنوي؛ لتكون كربلاء عنوان التضحية والتفاني والإيثار والعبودية الخالصة لله تعالى.