الطليعة الراشدة سماتها الشخصية ومتطلباتها
تقرير المحاضرة: عبد المنعم الحليمي
الشيخ عبد الجليل البن سعد | ٧ محرم ١٤٤٥ هجري
■ قال الإمام أمير المؤمنين.ع.[ فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جددا واضحا].(ميزان الحكمة.الريشهري.ج١_٢٦٦).
مفاتيح البحث:
الحديث عن الطليعة الراشدة سماتها ومتطلباتها فيه مجموعة من القواعد والمدارات:
_ القاعدة الأولى: البصيرة قبل التميز
_ القاعدة الثانية: من الذي يجلو البصيرة.
_ القاعدة الثالثة: التطور لايحسب بالعمر.
_ القاعدة الرابعة: سيلان الهمة.
_ القاعدة الخامسة: الطليعي المؤمن له اليد العليا.
_ القاعدة السادسة: الطليعي الراشد أين يرى موقعه.
مقدمة للبحث:
الطلائعيون في واقعهم عبارة عن مجموعة قواعد وسيرة، والمتابعة والنظر لسيرة الطلائعي تفيد المتابع وتلهمه الكثير من القواعد للحياة، والاندماج مع تلك القواعد تجعل من المندمج بها شخصية طلائعية..
البحث في قواعد الشخصية الطلائعية:
القاعدة الأولى: البصيرة قبل التميز..
هناك اشتباك معاني والمعاني بحاجة الى فرز وتفريق بينها، لذا عندما نصف الطليعي بالتميز فهذا يغاير وصف المؤمن الطليعي بالبصيرة.
فالوصف بالتميز: يعني امتلاك المتميز لقدر من المعرفة ولقدر من العزيمة..
أما الوصف بالبصيرة: فهذه تدلل على أن الموصوف بها يملك حالة إيمانية، والحالة الإيمانية لوحدها تمنحك قدرا من المعرفة وقدرا من العزيمة. ولكن خلاف ذلك لن يحصل.
● نموذج: زيد بن حارثة كان على هامش الحياة في قريش وأمثاله عشرات من العبيد والموالي ولكن بعد الإيمان بالله تعالى وبرسول الله.ص. ارتفعت منزلتهم حتى أصبحوا قادة لديهم مالا يدرك من العزيمة والمعرفة، والذي أوصلهم ومهد لهم هذا السمو والإرتقاء من الهامش في قريش الى الطليعية القيادية في عهد رسول الله.ص. هو الإيمان.
●بارقة: الفرق بين العالم الغربي والعالم الإيماني هو أنهم يملكون المعرفة والعزيمة بالذكاء والجهد وهذا يسمى تميز، بينما لدينا جملة من المؤمنين لم يكن متميزا في بداياته ولكن بإيمانه ترقى وتقدم وبلغ مراتب عليا.
فاصل روحي: هناك اجواء في الحوزة العلمية اذا حصلت السلامة الروحية تجعلك الى الله تعالى اقرب، ومع فقد السلامة الروحية تتحول تلك الاجواء الى حجب، ولكن في الحالة الطبيعية هناك اجواء حوزوية يستشعر معها ألطاف الله جل وعلا فتدفعه لطلب الاستزادة من الخيرات المعنوية والالهية..
● بارقة إيمانية:[ أعطي الله تعالى إيمانك يعطيك ماتريد].
_أنت مسؤول عن إيمانك وليس عن رتبتك وموقعيتك وانتماءاتك وسماتك الإجتماعية، والله تعالى هو الذي يرفعك ويعطيك وسام الطليعية، وليس أنت من ترفع نفسك..
قال تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.[المجادلة.11.].
القاعدة الثانية: من الذي يجلو البصيرة.
البصيرة الطليعية أحيانا تتجلى بصورة غيبي وأحيانا تتجلى عندما ترتبط وتلتحم بالموقع المناسب لها..
والشخص الذي ينتج في بيئته نفسها لايستحق وسام وميدالية الطليعية بجدارة، بل الطليعي هو الذي يتلاقى على التناقضات وقد يصنعها اذا لم توجد ويجد طليعيته في مقاربة وموازنة تلك التناقضات..!!
■ الأنبياء نماذج للطلائعيون في الواقع المتناقض:
أنبياء الله تعالى ورسله الكرام بعثوا وأرسلوا الى أقوام هم واياهم على طرفي نقيض، فالنبي لوط.ع. لايشبه قومه ولا قومه يشبهونه ونبي الله شعيب.ع. كذلك.وهكذا دواليك باقي الأنبياء.. ولذا هؤلاء الأنبياء أصلحوا وتمثلوا الدور الطلائعي في أقوامهم المتناقضين معهم..
بارقة فكرية: أصحاب الريادة والعمالقة في الفكر من حيث الكم والكيف وجدوا في بيئات وهويات متناقضة، ولذا أول ما خرج رواد الفكر في عالمنا العربي كان ذلك في مثل سوريا ولبنان وفلسطين وأولى من كل هذه الدول مصر، والسبب أنها أطياف دينية وفكرية متنوعة ومتصادمه، هذه أوجدت احتكاك لذوي الابداع والبصيرة فأبرزوا طليعيتهم..
■ بارقة حوزوية: ما الفرق بين الحوزات المحلية والحوزات الأم في مثل النجف الأشرف وغيرها.؟!
_ الفارق هو أن الجو الإحتكاكي والتلاقي العقلي والمعرفي مع باقي طلبة العلم من مختلف الدول والثقافات والمستويات، والذي يؤدي بدوره الى تلاقح الفكر وتنضيج الرؤى فينتج مبدعين وطليعين أكثر، هذا يتوفر في الحوزات الأم و تفتقده الحوزات المحلية..
القاعدة الثالثة: التطور لا يحسب بالعمر.
وسام الطليعية لايحمله الإنسان المتميز والمتفوق فحسب، حيث أن التجارب الإجتماعية تشير الى ان التميز والتفوق يستمر الى عمر قصير..
● المشكلة في بعض المتميزين أنه يملك لغة تواصل مع جيله وبمجرد تبدل الجيل لايملك لغة تواصل مع الجيل الجديد.. ولذا فان بعض الشخصيات الجامعية كان يذكر بالروح المتشعللة والقريبة من الطلاب في دفعات سابقة ثم تراجع كثيرا وكذا الامر مع ذوي العطاء اقتصر تدفق عطائه على جيل وفتر بعد ذ لك مع الاجيال المتجددة لانه لا يرى نفسه جزء منها وكذا بعض الخطباء في المساجد او في الحسينيات كان في بداياته خطيب حركة ثم أصبح خطيب بركة..
وهذه هي الاشكالية التي تلاحق بعض المتميزين والمتفوقين، بينما الطليعي يتطور بتطور الأجيال ولذا كلما تقدم به العمر يبقى شابا وفي طليعة الشباب…
● الدكتور الوائلي.رح. خطيب الأجيال:
الشيخ الوائلي الذي أصبح خطيب جيله وجيل من بعده ومن بعده حتى آخر حياته. وبقي مزدهرا حتى اخر لحظة، وارتحل عن الدنيا والى آخر رمق من حياته وهو يتطلع للتطوير، ولذا بعدما اطلع الشيخ الوائلي على منبر الشيخ محمد تقي الفلسفي قال: لو يهيأ لي أن اعطي عطاء الشيخ محمد تقي الفلسفي لأعطيت…!!
وذلك لأن منبر الشيخ الفلسفي منبر فكري علمي وكان الناس تتقبله وتهضم أطروحاته وهو لديه قدرة ومهارة في تقديم الفكرة ولو كانت فلسفية.
● الدكتور نجيب محفوظ روائي الأجيال:
أصبح الدكتور نجيب محفوظ الروائي للأجيال ومتصدرا لمدة سبعين سنة، بحيث أن كثير من الروائيين غيره لم يكتب لهم الاستمرار في الحضور والتمثل للأجيال بسبب عدم قدرتهم على التطوير وامتلاك لغة تواصلية مع الأجيال، بخلاف الدكتور محفوظ الذي كانت قابليته واستعداده لتطوير ذاته بحسب الواقع ..
القاعدة الرابعة: سيلان الهمة.
الهمة تتشكل بنوعين:
همة جامدة _ وهمة سائلة.
● مالك بن نبي نموذج الهمة السيالة:
مالك بن نبي الذي عم فكره العالم العربي، لم يكن في بداياته مشتغلا بالفكر وانما كان مهندسا كهربائيا، فلما وجد أن دينه ووطنه بحاجة للفكر وليس للكهرباء قام بالتبديل وأنتج كتب كل كتاب منها يعد نظرية بحد ذاته..
■ العلامة الطباطبائي نموذج للهمة السيالة:
نقل الأستاذ السيد محسن الخرازي أن العلامة الطباطبائي عندما جاء الى قم المقدسة قادما من النجف الأشرف محملا بشهادات اجتهاد، وابتدأ بتدريس الفقه في المدرسة الحجتية ولكن بعد مدة تقارب السنة تنازل العلامة عن درس الفقه وقرر تدريس التفسير، حيث كان يرى ان تدريس الفقه واجب كفائي بينما تدريس التفسير واجب عيني..!! وهذا العدول من درس الفقه الى درس التفسير ناتج طبيعي للهمة السيالة..
بارقة تفسيرية: العلامة الطباطبائي بنى مملكة جديدة للتفسير في قبال المملكات التفسيرية القديمة..
فاصل فكري: لقد تم معالجة موضوعة الهمة السيالة في روايتنا.(صانع العبقرية) من يقرأها يجدها في شخصية المهندس فؤاد.
■ اقتباس: من الروائي والأديب جبرا ابراهيم جبرا.( المبدع يضع امامه التراث الانساني ويحاول ان ينافسه ويتجاوزه ولا يكتفي بتقليد ماهو كائن أو ما كان لأن ذلك عملية نسخ لا ابداع..).
تعليق: الطليعي على ضوء الفقرة أعلاه للأديب جبرا ليس من ينافس المجموعة التي معه وحوله، بل هو من ينافس مبدعي التاريخ بأجمعه.
بارقة: الله تعالى اعطانا المعصومين.ع. ليس مثلا للتبرك بصورهم ، بل بحيث هم من يجعلون هممنا سيالة وطلائعية.. ولذا كلمة الأمير.ع. التي افتتح بها البحث 🙁 فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جددا واضحا.)، يشير من خلالها الأمير.ع. أن الطليعي يختار الطريق الواضح ليس تقليدا لما هو كائن او كان بل يختاره ذاتيا ببصيرة وفكر ونظر..
القاعدة الخامسة: الطليعي المؤمن له اليد العليا.
الطليعي يتوجب أن تكون له اليد العليا فهذا بتوجيه من الإمام الصادق.ع. حيث يقول: [ إِذَا خَالَطْتَ النَّاسَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُخَالِطَ أَحَداً مِنَ النَّاسِ إِلَّا كَانَتْ يَدُكَ الْعُلْيَا عَلَيْهِ فَافْعَلْ..].(الكافي.ج2_باب حسن الخلق.ص102).
_ الناس في روايات العترة الطاهرة.ع. تعني الخلائط التنوع البشري والانساني وليس خصوص المؤمنين..
_ وليس المقصود ان تكون اليد عليا على الاخرين بالقوة وإنما بالرضا والجدارة..
الخواجه نصير الدين الطوسي الطليعي المؤمن ذو اليد العليا.:
لما هجم المغول والتتار كان الخواجه نصير الدين الطوسي على رأس قائمة المطلوبين وكانت متخفيا بصورة تبكيك لو قرأتها حيث عاش السجن بدون سجان.
لكن الخواجه نصير الدين طلائعي مؤمن اي ذو بصيرة، وتجلت بصيرته وجلاها ذاك الواقع الذي عاشه، لذلك أخضع المغول للدراسة فوجد أن هؤلاء يطربهم العلم، ومن مثل الخواجه نصير الدين الطوسي في علميته وفنونه المتنوعة كالفلك والفلسفة والكلام والفقه وغيرها وهو من أخضع فقهاء الحلة للاختبار..
فخرج الخواجه نصير الدين للمغول يعرض عليهم علمه، ففرحوا بعلمه فأخذوه كعالم مهان لمدة شهرين يأخذونه معهم مكبل اليدين والقدمين، ثم استمالهم وفتحوا قيوده وتحول الشخص المطارد الى صديق، ولكن هل الصديق يصبح طليعي..؟! كلا
لذلك تحول الخواجه نصير الدين الطوسي من صديق الى قائد وضع يده العليا عليهم، وهذه المرتبة التي بلغها الخواجه نصير الدين الطوسي لم يتحملها بعض أعلام المسلمين فأخذ يلصق التهم بالخواجه نكالا به ، ولكن الخواجه عندما وصل الى الطليعية عم نفعه جميع المسلمين..
ومن طليعية الخواجه نصير الدين أنه صحح نظام الحوزة في الحلة، وصحح حتى في تراثنا ، ودعاء التوسل الذي يقرأ كل ليلة أربعاء مصدره هو الخواجه نصير الدين وبقيادته وصل الينا .
القاعدة السادسة: الطليعي الراشد أين يرى موقعه.
الطليعي الراشد حتى يرى موقعه لابد أن يعيش معارك مع الحياة، ولاينهزم في تلك المعارك وراية النصر في معاركه ليست القوة بل بالأمل…
■ بارقة من كتاب دور أهل البيت.ع. في بناء الجماعة الصالحة.ج1_ص204.للشهيد السيد محمد باقر الحكيم.رض.:
[ الجندي الذي يشعر بأن مسيرته سوف يكملها جنود آخرون يحققون النصر والفتح من بعده، يكون على استعداد للتضحية والفداء أكثر بكثير من الجندي الذي يشعر أنه.عندما يسقط تتوقف المسيرة وتكون المعركة خاسرة.]، وهذا المعنى اللافت البديع موجود في الطليعة المؤمنة ابتداء من مراجعنا الأعاظم..
■ وقفة نقدية: البعض يتجار بالكلام ويشاغب على المراجع بأنهم يتعاملون مع المرجعية كمنصب تشح أنفسهم به على غيرهم، ولذا لايوجد لديهم تقاعد ولا تنازل..
_ وحديث هذا البعض عندما يتحدث به فهو ينظر بإزدراء للمتلقي وليس للحوزات والمرجعيات، لأنه لو يعلم أن المتلقي والمتابع واعي من خلال القراءة والإطلاع والمطالبة بالدليل لم يكن ليتفوه بذلك، ولكن لاطمئنانه بأن الناس لا تقرأ ولا تطلب الدليل يجعله يقول ما يشتهي..
● نماذج مرجعية بصورة الجندي الطليعي :
أ_ السيد حسين الترك مرجع أعلى كبر سنه وضعف سمعه وضبطه، فجمع المجتهدين وطلابه في النجف الأشرف ليختبروه وكان من ضمن المختبرين تلميذه الشيخ محمد حسن المامقاني فقال التلميذ لأستاذه أن تقليدك الأن غير صحيح، فأمر بأن يكتب في الآفاق للعدول واختيار مرجع تقليد آخر..
● تعليق: هذا المرجع لم يتعامل مع الحدث بل تعامل مع الأمل، لأنه بذلك يهب الشجاعة لمن يأتي بعده ويكمل مسيرة الجندي الطليعي..
ب_ الأستاذ المرجع السيد كاظم الحائري: وإعلانه اعتزاله للمرجعية الحدث الذي أشغل الإعلام وليس هو الوحيد، وقد عايشناه قبل ثلاثين سنة اعرفه وهو يشكو المرض بل أمراض، والأستاذ عنده تصعب في الوثوق يختلف عن غيره، لا يثق في اي جهاز اداري بسهولة ولذلك هو يرى عدم وجود جهاز اداري كافي لتحمل شؤون المرجعية الصعبة في ظل مرضه لذا اختار وبكل شجاعة ايمانية هذا الانسحاب الطليعي.
ج_ مراجع ضيقوا دائرة مرجعياتهم ك:
١_الشيخ الوحيد الخراساني، لو كان قد فتح باب المرجعية لأصبح المرجع الأعلى، ولكنه يتعامل معها بطريقة لاتستسهل الناس تقليده وتقلد غيره.
٢_ الشيخ محمد تقي الشيرازي.(قائد ثورة العشرين)، وقد سمعت هذه من المرحوم الشيخ بهجت ، أنه عندما وصلت اليه المرجعية ضيقها والسبب أنه كان قائد ثورة العشرين في مواجهة الانجليز، وكانوا الانجليز يتقصدون المرجع أو جهازه فينفثون فيه سمومهم، لذلك كتب رسالة عملية مليئة بالإحتياطات حتى تضطر الناس تقلد مراجع آخرين فيتحير الانجليز فيمن يتعاملون معه…