التكوين الديني للطليعة المؤمنة
الشيخ عبد الجليل البن سعد | ٩ محرم ١٤٤٥ هجري
تقرير المحاضرة: عبد المنعم الحليمي
قال تعالى{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.[التوبة.33].
مفتتح البحث:
اذا وجد دين معين يمتاز أهله بالقيم والريادة والتقدم، فإنه لا أحد ينكر أن ما بين تقدمهم ودينهم صلة وثيقة..
هكذا عندما نتحدث عن الدين الإسلامي، حيث أنه تنزل وحط في أرض تعتبر منطقة تضاءلت فيها الإنسانية بشكل شبه كامل، ولكن ثمة تحول طرأ على الناس بشكل سريع ودار بهم التقدم كما يدور الدولاب، وأصبحوا في بضع سنين حضارة وأمة لا تقاس بها الحضارات والأمم آنذاك.، لذلك من الصعب أن يفصل بينهم وبين الدين ومن الصعب أن يتنكر لتأثير الدين في الناس..
فقرات البحث:
أ_ عناصر التكوين الديني للطليعة.
ب_ الدين وحركة النمو الحضاري.
ج_ تصورات معاكسة في الميزان.
متن البحث:
أ_ عناصر التكوين الديني للطليعة.
١_ التكوين القيادي:
قيادة النبي الأعظم.ص. لاتقاس بها القيادات الأخرى، فقيادة وشخصية النبي الأعظم.ص. استطاعت ان تستلفت ذوي العقول وذوي النفوس بالرغم مما بينهم من حدود ايديولوجية وقومية ودينية، حيث أن الوجود النبوي وجود نوري يغشى العيون..
● النبي الأكرم.ص. أعظم القادة على مر التاريخ:
دكتور الفيزياء والفلك الأمريكي مايكل هارت يكتب كتاب(المئة الأوائل) أي المائة شخصية الأوائل التي قادت العالم عبر التاريخ وكل من سيذكر لاحقا فهو بعد هؤلاء المئة، واللافت في كتاب مايكل هارت أنه جعل النبي الأعظم.ص. أول شخصية وفي صدارة المائة قائد للعالم عبر تاريخ البشرية..
هذا انموذج لاستلفات النبي الأعظم.ص. لذوي العقول، ولكن لننظر الى اي مدى استطاع النبي الأكرم.ص. ان يستلفت حتى الذين بينه وبينهم حواجز صلبه اسمنتيه..!!
_ أصحاب الديانات الأخرى عقيدتهم واضحه، في أن آخر نبي لله تعالى هو نبيهم فلا يعتقدون بالنبي الأكرم.ص.، ولكن المسيحيين الشرقيين بالتحديد كان لهم إهتمام بالغ بشخصية النبي الأعظم.ص. حتى اصبح اهتمامهم بالنبي.ص. محرجا بالنسبة لهم حيث كثر السؤال عليهم وأصبح يوجه لهم : لماذا اعطيتم لرسول الإسلام هذا الاهتمام البالغ..؟!
_ وتستطيع قياس الاحراج الذي واجه المسيحيين المهتمين بالنبي الأكرم.ص. من خلال اجاباتهم، مثلا:
● الإهتمام المسيحي الشرقي بالنبي.ص. لأنه اعظم شخصية عربية لذلك هو جزء من التراث العربي فعروبتنا تدفعنا للاهتمام به.
● لا فروق جذرية بين المسيحية والإسلام ولذا هذا المعنى استلفت ملك الحبشة آنذاك.. وهناك تبريرات اخرى ذكرتك..
■ التبرير القرآني:
قال تعالى{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.[المائدة.82].
_ وهذا التبرير القرآني لموقف المسيحيين، يعاكسه تماما موقف اليهود الذين هم أشد عداوة لأن اليهودية تمثل ايديولوجية مغلفة بالعصبية، فالحوار معه فيه صعوبة والاحتضان له فيه صعوبة.
٢_ التكوين العلمي..
التكوين العلمي هو العنصر الآخر بعد القيادي في صناعة وانتاج الطليعية، والجاذبية العلمية لذوي العقول صورة لافته حيث أن ذوي العقول والأفكار لا تقاوم العلم وتكون مأسورة له، وحتى لو لم يتفق مع هوية العالم الا أن ذوي العقول لا تقاوم العلم والفكر، بل العلم والفكر لايعرف الانغلاق..
وقفة مع استفهام:
في كل عام يطالعنا استفهام من بعض الأخوة والأحبة، لماذا المنبر الحسيني الفكري ويستحضر فكر غربي يخالف منطق الفكر الديني وهويته..؟!
لكن وبعد التجاوز عن تحفظي بتسميته بالفكري..
_ إن اختلافنا مع الفكر الغربي لايرقى الى اختلافنا مع الجاهلية، ولكن كم نحفظ من اشعار الجاهلية ونعتبرها من عيون الحكم، ثم ان الاتصال بالآخر المختلف له عدة طرق:
_ فتارة الاتصال لأخذ العظة.
_ وتارة الاتصال لأقول له من فمك أدينك.
_ وتارة من باب والحسن ما شادة به الضراء.
وتارة الاتصال مع الآخر لقول رؤية فكرية وهي:
( لا قطعية في المنطق الفكري ).
وتارة الاتصال للتصادق بين العقول وهو امر واضح
_ فالمسلمون في تاريخهم لم تحصل لديهم قطعية مع الجاهلي ولم تحصل لديهم قطعية مع مثل فلاسفة اليونان، وكم أخذ المسلمون الأوائل من فلاسفة اليونان ولكن ليس على حساب الدين بل لصالح الدين وما كان غير صالح أسلموه.. ولدينا انموذج حركة ابن رشد وغيره والتي هي حركة أسلمة..
● نعود بالقول أنه بالرغم من الحاجز الاسمنتي تجاه الآخر في مثل اليهودية الا ان الجاذبية النبوية المحمدية استطاعت النفوذ اليهم..فاليهود فرق وطوائف ومنهم طائفة السفارديم. التي حصل فيها تأثر عميق بالثقافة الاسلامية لذا صاروا يملئون كتبه بأمثال فلاسفة الإسلام، مما اثار حفيظة الطوائف اليهودية الاخرى واعلنت القطيعة معهم، بل ان بعض الطوائف اليهودية المتعصبة حصلت منها حالة نقمة وإمتعاض على شخصية يهودية كبيرة وهي:
_ سعديا الفيومي[ سعيد بن يوسف أبو يعقوب الفيومي المشهور ب«سَعْدِيا» من أكابر الأعلام والحاخامات وفيلسوف يهودي مصري( ت/942م) ].:
كتب كتاب ( الأمانات والإعتقاديات)، فثارت ثائرت اليهود حيث أن كتابه هذا صورة إسلامية في مصطلحاته وأفكاره.
■ هذين العنصرين _ القيادي والعلمي_ وغيرهم من عناصر ذات مدخلية في التكوين الديني للطليعة، تنبه البعض أنهم يشكلون خطورة على الأديان والحضارات الأخرى، لذا وصلت الممارسة في تشكيل الحواجز والحرب ضد الإسلام الى تربية النشأ على الكراهية للدين الإسلامي.
صور حرب الكراهية ضد الإسلام:
١_ الصورة النمطية عن الإسلام: بالحرب على الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين.. بالتشويه في المدراس الأمريكية ومقرراتها وغيرهم..
٢_ صورة الإرهاب: والإرهاب ليس الصورة الوحيدة التي يصور بها الإسلام والمسلمين.. بالرغم من أن الإرهاب لا هوية له ولا دين، لذلك يسكتون عن الإرهاب الشيوعي الفضيع وحفل به تاريخ الشيوعية القصير، ويتحدث عن ارهاب هم من زرعه وبذره ورعى غراسه..
_ الصور المسيئة للرسول الأعظم.ص. ليست وليدة اليوم بل هي قديمة من أيام الدولة العباسية ومع الحروب الصليبية حيث انه كانت هناك صور ومجسمات مسيئة لتربية النشأ انذاك على الكراهية، ومع الأسف أنه كان هناك انجرار في الدولة العباسية لمثل هذا الاستفزازات.. حتى ان بعض القضاة العباسين امر برسم صور الكلاب على ابواب اليهود!!
_ لذلك مرجعياتنا الدينية الفاضلة توصي دوما الشباب بضبط النفس وعدم الانجرار وراء الاستفزازات.. وشبابنا بحمد الله أثبت جدارته، لأنه الانجرار وراء هذه اللعبة والدخول في أطرافها لا رابح فيه بل الكل خاسر..
٣_ التحدي المباشر للمستقبل ولقمة العيش:
● الفيلسوف إدغار موران يؤكد على مسألة انه في فرنسا، هناك محاصرة وتضييق على المسلمين في ارزاقهم، بحيث أن شباب المسلمين اضطروا لضمان مستقبلهم الذي وضعت أمامه العوائق بسبب اسمائهم العربية والاسلامية ان يضعوا لهم اسمين أحدهما فرنسي والآخر عربي…
ب_ الدين وحركة النمو الحضاري.
● نحتاج الى تشريح فكرة الدين والنمو الحضاري لكي تحصل قناعة بها، فالقناعة الفكرية معبرة عن مناعة ضد سموم الأفكار وقطاع طرق فكريين..
_ سؤال تفاعلي وإجابته يجب ان تكون متنوعة ماذا يمثل الدين بالنسبة لنا.؟!
١_ الدين مرشد.
٢_ الدين حاكم.
٣_ الدين مؤسس
٤_ الدين مربي
▪ وهذا التنوع في الاجابة يجعلنا نفهم أن الدين يتحرك ضمن مجموعة أفكار ، وله منازل فالدين ليس مبني على فكرة واحدة او منزلة واحدة.
مدارات الدين:
١_ الدين مرشد.
هناك مساحة يتحرك فيها الدين كمرشد وليس كملهم، بمعنى ان هناك افكار مقررة بإمكان العقل الوصول اليها ولكنه يحتاج الى مسافة طويلة شائكة لكي يصل اليها، فالدين فتح له باب آمن لطريق تلك الأفكار واختصر عليه المسافة.
● الإمام علي والدور الإرشادي:
الإمام علي.ع. كتب عهدا الى مالك الأشتر وتحدث فيه عن:
_ الفكر الإداري.
_ المعايشة السلمية.
_ الأنشطة التجارية..
▪[ ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة. ]
هل ما قرره الإمام علي.ع. في عهده لمالك الاشتر يعني أن العقول لم تكن لتصل اليه ولا يدركها أو يستحيل ان يصلها، ولم يكن شذرات مشابهه له في تراث أمثال فلاسفة اليونان.؟!
_ هنا الإمام علي.ع. وهو سيد العقلاء وسيد العقل يتحرك ضمن مساحة الإرشاد وليس الإلهام، نعم لو كان حديث الإمام علي.ع. عن المغيبات أو الأحكام الشرعية او تأويل كتاب الله فهو تحرك في مساحة الإلهام وليس الإرشاد.
٢_ الدين حاكم.
مقولة الدين حاكم مثار التباس وتشويش في الأذهان، وهي مقولة لاتخيف وليست مصدر للارهاب. ولتتضح الفكرة نقول:
الدين حاكم هل هي مقولة مرونة ، أو مقولة احتكار..؟!
● في المنطق الديني: الحكم مركز وهو بالأولوية، اي يدور مدار الاولوية و الاولويات لا انه يتمسك بالحكم ويقاتل من اجله كلا..
مثلا”:
_لو وجد مسلم ظالم و كافر عادل.!! فأولوية الحكم هي للكافر العادل.
_ في ظل وجود المعصوم.ع. لا يتقدم عليه غيره، ولكن لو تقدمه غيره فالمعصوم.ع. يوصي ويؤكد على أولوية إنجاح المسيرة لا إسقاطها..
_ والحاكمية لاتعني الإستعلاء على الناس بالقهر والقسر والقطيعة مع العقول، فهذا الرسول الأكرم.ص. المتصل بالوحي على مستوى القضاء حكم بالبينة والأيمان وليس بعلمه الوحياني، وعلى مستوى الحروب ما سار فيها بالعلم الغيبي والوحياني بل بالمشورة..
٣_ الدين مؤسس.
وهذه المقولة أيضا حصل فيها اضطراب، ولذا نقول:
أ_ أن الدين أسس للتوجه الفكري والاقتصادي والتربوي وغيره، فالدين لم يؤسس العلوم حتى يحصل الاشكال من البعض، وإنما هيأ الأرضية ووجه وأسهم برفد المسيرة التكاملية لتلك العلوم..
٤_ الدين مربي:
● التربية الدينية بالعبادة، وهنا أنقل بعض الكلمات المهمة في موقعية العبادة:
_ الدكتور صادق جواد العماني:( العبادة تحفظ جوهر الدين)، حيث ان جوهر الدين هو التوحيد، والتوحيد يحتاج الى تكيف معه والتحام به..
● والبعض يتفلسف ان جوهر الدين سؤال لم يتم الجواب عليه.؟!
ويقال له: جوهر الدين هو التوحيد، ولكن لتعرف التوحيد لابد من معرفة مدياته، فالتوحيد ليس كلمة بل إمتدادات ومديات..
_ السيد محمد حسن ترحيني في كتابه الماتع المهم قرائته للشباب ( الإسلام والعقل)، يقول: لابد من العبادة لأنها نافعة للعقل، وحقيقة الانسان ليست عقلية بل نفسية لها القدرة العقلية..
الدكتور توفيق الحكيم: ليست العبادة طقوس ظاهرية، بل الله يأمره ان يعبده كي يرتقي بعقله..
إفساد الشعائر والطقوس العبادية:
عندما يفسد الانسان الطقوس فهي لاتنتج النتائج المطلوبة والتي مر ذكر بعضها في الكلمات السابقة، حيث أنه في الستينيات من القرن الماضي حصلت عملية افساد للطقوس الصوفية بإدخال الموسيقى والمؤثرات الصوتية رغم أنف مشايخ الصوفية، واليوم نراها تدخل في الشعائر والممارسات الحسينية ماذا حصل..؟!!!
ج_ تصورات معاكسة في الميزان..
● تصورات البعض_ كأدونيس في كتابه الثابت والمتحول وغيره_ أنه الدين في القرنين الأخيرين أصبح محرج وأن المعاصرة احرجت الدين..؟!
المعاصرة أقلقت الدين:
في الجواب على مثل هذه التصورات نقول:
لماذا لايكون العكس وهو أن الدين أقلق المعاصرة.. هذه المعاصرة التي حلمها ان تنتصر على الدين الإسلامي وتجعله في الهامش.. بخلفيتها العلمانية طبعا ولكن الإسلام كان مقلق لها فكريا وفلسفيا واجتماعيا واقتصاديا…
■ وقفة فكرية:
زكي نجيب محمود(ت/1993م): من أبرز فلاسفة العرب ومفكريهم في القرن العشرين، وأحد رُوَّاد الفلسفة الوضعية المنطقية. وصَفَه العقاد بأنه «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة..
_ هذا الدكتور عاش في اوروبا مدة زمنية طويلة، وترجم الكثير من الكتب الفكرية الفلسفية الغربية،قارىء نهم وفهيم ويملك عقلية مميزة، الا أن كتاب الأسس المنطقية للاستقراء للشهيد السيد محمد باقر الصدر.رض.(ت/١٤٠٠هج)، فإن الدكتور زكي نجيب عندما قرأه ليترجمه بطلب من بعض من يتصل بالشهيد الصدر امتنع عن قبول ذلك لصعوبة الكتاب وإحتياجه الى فهم للكتاب بشكل أكبر وهو الذي قال عن هذا الكتاب للشهيد الصدر.: [ «إنه من الكتب التي ينبغي أن تترجم إلى اللغة الإنجليزية لتعرف أوروبا أنّ لدينا فلاسفةً أصليّين يملكون العمق الفلسفي والفكر المستقل»]..
_ هذا الدكتور البعيد عن التراث الإسلامي ويتغذى سنين على مائدة الفكر الأوروبي، عندما غادر أوروبا نزل في الكويت وبدأ يقرأ في التراث العربي والاسلام أصابته صدمة مما وجده في التراث الإسلامي والعربي من فكر وأصالة وعمق..
● جماعة خاضت في علوم الآخرين كمحمد عبده ورشيد رضا في غرب العالم الاسلامي وفي شرقه العلامة الطباطبائي والشهيد مطهري والشهيد الصدر، ولم تقلقهم المعاصرة..
■ البعض يطرح اشكالات بأن هناك تحولات كبرى في المعاصرة مصرفية اقتصادية وطبية كالموت السريري أين هو نظر الدين فيها..؟!!
المبدأ الفقهي والمبدأ الأخلاقي:
البعض وقع في خلط الأوراق بين المبدأ الشرعي الفقهي والمبدأ الأخلاقي ، فالفقه ليس بقلق وليس بالصعوبة على الفقيه أن يعطي رأيه مع مثل حالات الموت السريري فيفتي بجواز نزع الأجهزة التنفسية اذا كانت هناك تقارير طبية موثوقة ومأمونة بأن الميت سريريا بقاؤه هكذا في ضرره لاحتمالية تعفن جسمه، وانه ميت بكل المقاييس ولكن ليست المشكلة فقهية أو قانونية او علمية. بل أخلاقية وتمثل احراجا أخلاقيا حتى ان القانون المنفصل عن الفقه لم يجرؤ حتى الان على ان يسمح بخلاف الموقف الاخلاقي