في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) صبيحة عاشوراء (١٢)
السيد فاضل آل درويش
النفس بين الطمأنينة والثقة:
من مضامين الدعاء هو المردود النفسي على الداعي وما يحققه من حالة التوازن والأمان في وسط أمواج الضغوط الحياتية والمنعطفات الصعبة، إذ الصعوبات والأزمات تؤثر على نفسية الفرد وتستنزف قواه وقدراته ويصاب بالتشوش في فكره والشلل في حركته وينكفيء على نفسه، فالضبابية تلف الأيام القادمة في نظره ولا يبصر الضوء في نهاية هذا النفق الذي وقع فيه، فتأتي مدرسة الدعاء لتعيد له هدوءه النفسي وتفك عنه الروح السوداوية والتشاؤمية، تتصل نفسه المتعبة والمثقلة بالهموم بالقوة المطلقة المحركة للكون وما فيه ولا يملك أي عامل مهما بلغت قدرته التحريك الذاتي، وإن الله تعالى مع عبده ويسدد خطاه ومسعاه نحو الخروج من هذه الشرنقة، فالدعاء له ذلك الأثر النفسي الذي يخفف عنه تلك الأحمال ويعيد الصفاء لذهنه و يبصره بما هو أمامه من خيارات واحتمالات وعليه أن ينهض مجددًا متوكلًا على الله تعالى ومن ثم تنتشله همته وإرادته شيئًا فشيئًا للخروج من مشكلته والوصول إلى المخارج الممكنة، فهذا الشعور بالقوة والقدرة على مواجهة الصعاب على مستوى علاقته بربه عندما تعرض له المعصية وتسول له نفسه الأمارة بالسوء وتغريه بارتكابها، فرقابة الله تعالى له والخشية منه عز وجل قد تكونت وتمكنت من نفسه فتحدث عنده حالة صراع بين أهوائه الداعية للمعصية وبين نفسه الممانعة له من فعل ما يغضب محبوبه، وهكذا تكون الغلبة لروح التقوى على جنود الشيطان وحفر مكره والبصيرة بمساربه.
وكذلك مواجهة الصعاب على المستوى الأخلاقي وتحكيم التعامل بالخلق الرفيع والتعامل الحسن حتى مع من أساء إليه، فإن من أقوى مواطن القوة عند الشيطان هو جر المؤمن نحو إثارة مشاعره السلبية وروح الكراهية وتأجيج الخصومات ونار القطيعة، إذ أن وأد الفتنة والقطيعة ومقابلة السيئة بمثلها تحتاج إلى قوة نفسية تمانع ذلك وتبصر العواقب المترتبة على اللكمات والكلمات النارية المتبادلة، بما يقطع العلاقات بين أفراد المجتمع ويوهن سواعدهم ويبث بينهم سوء الظن، ولذا نجد مدرسة الدعاء تدعو إلى تهذيب النفس وقواها على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، والترفع على إساءة المسيء ولعل في كظم الغيظ ما يعيد المسيء إلى رشده وينزع الشرور والعدوان من نفسه.
والدعاء مدرسة كذلك في مواجهة الصعوبات على مستوى الضغوط الحياتية وما يواجهه الإنسان من أزمات ومشاكل تؤرقه وتسلب منه هدوءه النفسي وراحة البال، ولا يخلصه من ضنك العيش وتكالب الهموم إلا ذكر الله تعالى واللجوء إلى محراب مناجاة الله تعالى، فيجلي كربه ويدفع عنه تلك الضغوط المتولدة من تكالب الزمان، وينهض مجددًا متسلحًا بالثقة بالتدبير الإلهي والصبر وروح المواجهة والمعالجة بإطار الممكنات.
وتلك الروح البطولية المنقطعة النظير التي كان عليها أصحاب الإمام الحسين (ع) بحيث كان الواحد منهم جيشا كاملا يقابل الكتائب دون أن يداخله الخوف، ولم تكن مظاهر تلك الشجاعة والبسالة منعكسة على الجانب القتالي فقط، بل لابد من ملاحظة وتأمل المنطق البليغ الذي تحلوا به دون أن تصدر منهم اللجاجة أو التأتأة مثلًا، بل كان فصل الخطاب والجواب القوي حاضرا في كلماتهم وحواراتهم مع جيش الأعداء، كما أن النظام والترتيب واتفاق الكلمة مؤشر آخر على أنهم بعيدون – كل البعد – عن التأثر بالظرف الصعب المحيط بهم، فالتوازن والتماسك النفسي والانفعالي في وقت الشدائد والمحن هو من سمات أولياء الله تعالى الذين ما غاب عنهم للحظة الاستعداد للقاء الله تعالى.
ورد في شهادة رجل من عسكر ابن سعد يصف بها ما كان عليه الإمام الحسين (ع) وأصحابه من قوة روحية بأنهم ليوث الهيجا، فقال: ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كأسود ضارية تحطم الفرسان يمينًا وشمالاً وتلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية)(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ٢٦٧).
لقد تجلى منهم (رض) الرضا بقضاء الله تعالى والطاعة للإمام الحسين (ع) والطمأنينة والثبات في جنانهم وجوارحهم، ذلك بفضل القوة الروحية التي اكتسبوها من مدرسة الدعاء ومضامينه التي تجسدت في أفعالهم وأخلاقهم.