الإنفاق، والعزوف عنه
صالح المرهون
خير الناس أنفعهم للناس. والإنفاق من أبرز وجوه الإحسان، والإحسان قد يكون ببذل النفس، وقد يكون بقضاء حوائج المحتاجين، وقد يكون ببذل الكلمة الطيبة، وقد يكون ببذل المال، وهكذا درجات الإحسان مختلفة ومتفاوتة، والإحسان هو الإنفاق إذا أخذنا الإنفاق بالمعنى الأشمل المطلق، أي: صرف ما بالحوزة مطلقًا لغرض ما، فيشمل دعم الجمعيات الخيرية، وإنفاق العلم وإكرام الموتى والنصائح والقيم الأخلاقية والمال.
ويكون الإنفاق أبرز وجوه الإحسان إذا أردنا به الإنفاق المادي، والقرآن الكريم ركز كثيرًا على هذا الإنفاق وشجعه، وبين أن الإنفاق والإحسان يعودان بنتائج طيبة على من أنفق في قضاء حوائج المؤمنين وإكرام الموتى وخدمة المجتمع، لهذه الأسباب:
١- أن الإنفاق مخلوف بنص القرآن والأحاديث الشريفة ونص الواقع، فلو أنفق المؤمن وسخر جهده وماله في سبيل المجتمع وخدمة المؤمنين وقضاء حوائج الناس، فإن الله يرزقه المزيد، ثم ألم ينبأ بما في الصحف الأولى؟ وألم تصله أنباء البشر من قبل الذين ضحوا بما هو عزيز عليهم وعلى كل إنسان حتى نالوا البر والإحسان وصدق الموقف وعظمة الشخصية؟ فمن منهم خسر؟ الخاسر الوحيد من يفضل لذة بسيطة على نفع أعم وأكثر وأشمل، ألا ترون أن سيد الشهداء
ضحى بما هو عزيز عليه حتى بالطفل الرضيع،
٢- ومنها تقوية ركائز النفس، فالإحسان أمر مبدئي، فإذا تعود الإنسان أن يكون مبدئيًا قويت نفسه وصارت أكثر استقرارًا وثقة واحترامًا، وهذا أمر ملموس لمن أنفق مخلصًا لله وفي سبيل الله، فإن العائد النفسي لهذا الإنفاق يلمسه في نفسه في الحال، وهذا معني قوله تعالى:(وتثبيتًا من أنفسهم)، إن بعض الباحثين في علم النفس في الجامعات الأمريكية أثبتوا -كما نقلت عنهم إحدى الصحف- أن مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان تطيل العمر، فالإنسان يشعر بمعنويات مرتفعة عند تقديمه مساعدة لإخوانه البشر لها مفعول أقوى وأبعد تأثيرًا، وعلقت إحدى الباحثات في علم النفس بجامعة كاليفورنيا على ذلك، بأن مساعدة الآخرين تقود إلى تفريغ شحنة التوترات المتراكمة التي يحملها الإنسان ولذلك فإن مقدم المساعدة يحصل على مزايا جسدية ومعنوية لدى عمله على تحسين أوضاع الآخرين، والحقيقة أن علاقة الإحسان وصلة الرحم وتسبيبهما طول العمر يحتاج إلى وقفة، إذا لم تفسر لحد الآن هذه العلاقة تفسيرًا صحيحًا، في هذا المجال من ديننا في الشريعة.
٣-إذهاب الخوف والحزن، فالنفس من طبيعتها أن تحزن وتخاف على فقدان أي شيء تريده، والمنفقون في سبيل الله يكون الصوت الغالب في نفوسهم الرضا، ولكن تبقى هناك ولو ذرة صغيرة من هذا الشعور بباطن النفس، أي شعور بالندم على الفضل، ولكن الله سبحانه وتعالى- كما أخبرنا في كتابه الكريم- إذا تقبل من شخص هذا العمل بسبب توجهه الكامل حال الإنفاق، فإنه من نعمه يجعل النفس صافية مصفاة لله لا حزن ولو بمقدار ذرة فيها على ما أنفقت، إضافة إلى عدم الحزن والخوف في الآخرة، وهذا معنى الآية الكريمة: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) فالخوف والحزن المرفوع هو في الدنيا والآخرة، وليس كما ذهب إليه بعض المفسرين من أنه يختص بثواب الآخرة فقط.
٤- الإنفاق هو إقراض لله تعالى، وهذا هو نص القرآن الكريم: (من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له وله أجر كريم) ولكن هذا الإقراض يحتاج إلى توضيح وبيان، فمن الخطأ حمل معاني هذه الآية على المعنى الظاهري لأنه غير منطقي، فالمال كله لله، والله لا يقترض ماله، وإنما القصد تواضع الله سبحانه وتعالى إلى الحد الذي يصور نفسه سبحانه يقترض من هؤلاء ماله من أجل المحتاجين لهذا المال، فيا لرحمة الله وتواضعه، وعظمته من خلف ذلك، والله هو المتجبر العظيم الغني عن كل مافي السماوات والأرض خيرًا وشرًا.
٥- الإنفاق قد يكون بنية ما فتتبع نتيجة ما نوى هذا الإنسان، فمن أنفق ليدفع البلاء عنه فسيدفع البلاء عنه إذا كانت المعادلة تقتضي ذلك، ومن ينفق لدفع موانع ما سترفع كذلك، ومن ينفق لزيادة رزقه سيكون له ذلك وهكذا، وهي زيادة العطاء، فإذا ما زاد الإنسان في الإنفاق في سبيل الله زاد الله سبحانه وتعالى مضاعف ثوابه، وزاد أضعافًا أيضًا في تسبيب الأسباب في إنفاق آخر وهكذا، وهذا الأمر مطلق، أي العمل الصحيح الصالح الخيري الإنساني حتى من غير الموالي، بل حتى من المشرك والملحد يقابل بإحسان من الله، ليس بالصورة الأخروية في الدنيا، وقد يكون أيضًا في الجانب الأخروي برحمة الله، فعلى المؤمنين دعم الجمعيات الخيرية وعدم العزوف عن الدعم الخيري الإنساني.
ومن الملاحظ أن جمعية الفردوس لإكرام الموتى
أعلنت أكثر من مرة عن حاجتها الماسة إلى سيارات إسعاف لنقل الموتى من المستشفى إلى المغتسل،ثم إلى المقبرة، وخدمات أخرى لإكرام الموتى، ومن هذا المنطلق أوجه نداءً عاجلًا لطلبة العلم والخطباء لحث الناس على التبرعات والإنفاق في سبيل خدمة المؤمنين من الموتى وإكرامهم، وهذا مهم جدًا لهذا المشروع الخيري الإنساني الديني.
ونحن قريبو عهد بشهر محرم شهر الفداء والتضحيات، فعلينا أن نضحي بالمال والجهد وبوقتنا من أجل مجتمعنا أسوة بتضحيات سيد الشهداء.