دوام الحال من المحال
حليمة بن عطاء
نعيش بين أحبائنا وأقراننا ومن نلتقي بهم يوما صدفة -ولا توجد صدفة- حياة مليئة بالأنس والمودة والفهم والحب والاتساق أو الانسجام التام، فيكون لقيانا بهم حبا وشوقا ورجاء وكأنهم جزءا لا يتجزء من كياننا الخاص، وعندما تكبر دائرة الإنسجام نراهم نحن، ونحن هم، ليكون آخر حديث معهم أننا على شوق للاتصال بهم غدا وكأنهم مفتاح نفضل أن نبتدئ به يومنا قبل الخوض في غمار مشاغلنا، حتى نجد الحقيقة المرة أو ربما الواقع هو كذلك ولكننا غيبنا أنفسنا وعقولنا عمدا، حتى لا نعترف به، أنهم ونحن راحلون!
فنعيش شعور طفل أخذت منه لعبة أشتراها والداه له للتو!
أو أخٌ قد فارق أخيه لذهابه إلى سفر طويل وهما قبل ساعة فقط قد كانا يتفقان على أي الزوايا يضعان فيها طاولة المكتب في غرفتهما المشتركة.
إنَّ آلام الفقد هذه لا تقتصر على الإنسان فقط بل حتى على من لا عقل لهم فهم يملكون هذا الشعور! كقط فقد أمه، فنجد مقلتا عينيه تدمعان، ويبقى طويلا بجانبها، أو قطيع من الفيلة فقدت دغفلها لتعود له مجددا فتتأرجح للأمام والخلف وكأنها تقيم طقوسا دينية على رفاته، وكذا مثلها الزرافات، ولا يقتصر ذلك على الثدييات منهم فقط، وإنما الدلافين والحيتان في عمق بحارها تشعر بذلك أيضا، فتقوم الدلافين بالسير خلف أم فقدت صغيرها وكأنهم في حالة تشييع جنازة في عمق البحار، وأما من يحلق في أعلى السماء، كالغراب يصدر أصواتا وصيحات عالية حين يفقد أحدهم لتجتمع الطيور بهم من الفصائل الأخرى، كمأتم يقام لهم بتنظيمهم الخاص، بل وشوهد من الثدييات من يموت بعد ساعات من فراق عزيز لهم، كفراق إبن لأمه أو شريك لشريكته، فيكون لمن لا عقل له شعور ألم الفقد ويسهل ذلك على من له القلب والعقل والشعور كله؟!
فيغيب عنا أننا في دنيا لا يبقى شئ فيها على حاله!
فنعيش كبشر يحس ويشعر بعد تعلقه بمن يود وكأنه دائم له مدى الدهر، مع علمه اليقيني باستحالة ذلك، ولكن هي آماله وأمنياته، لتأتِ له أخبار افتراقه عنه في لحظة مفاجئة لتعيده إلى الواقع فتذكره به، أن قلبك وشعورك ملكا لله وحده، فلا تشرك معه به أحدا، فالباقي أجمل من أن يزاحمه فانٍ، وبين هذا كله يكون أهون ما على قلب المرء أن يكون أخوته ورفقائه وأصدقائه أحياء يرزقون وقد غادروا إلى حيث هو خيرٌ لهم، على أمل وجود واستمرار الاتصال بهم ولو كانوا في أقصى ناحية من أرضنا الواسعة، ولا يلام لو شق عليه ذلك.
لا يلام المرء حين يشعر بأي شعور صعب نتيجة فقده لعزيز له، ولنا في المولى أمير المؤمنين تأسٍّ حين فقد إبن عمه وأخاه رسول الله وعزيزته الزهراء فكان يقول عند قبره بعد انتهائه من دفن الزهراء روحي فداها (أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم). لنجد أن كل مادون ذلك مما مر على المولى أبا الحسنين روحي فداهم ماهو إلا نزر قليل، فيسهل التعامل معه، فيكون تعاملنا مع حقيقة أن دوام الحال من المحال سهل يسير، فإن كان لا فرق بين ذلك بين سيدهم وخادمهم، بل وحتى الكائنات الأخرى تعيش ذلك، فلا خصوصية لأحدنا في ذلك، والسعادة كل السعادة إن كانوا هم بخير وأحياء يرزقون، ولا يهم بعد ذلك في أي بقعة من بقاع الأرض سكنوا.