السيد فاضل آل درويش
معارك خاسرة:
روي أنّ شاميًّا رآه راكبًا، فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام عليه وتبسّم، وقال: “أيّها الشيخ، أظنّك غريبًا، ولعلّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعًا رحبًا، وجاهاً عريضًا، ومالًا كبيرًا”، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدًا لمحبّتهم)(بحار الأنوار ج ٤٣ ص ٣٤٤).
ما يزال الحديث حول الخلق الرفيع للإمام المجتبى (ع) مع الشامي الذي أساء له بصنوف الكلمات المسيئة والقبيحة والشتم، ومع ذلك سجل الإمام (ع) موقفًا مشرفًا ومشرقًا في تاريخ الإنسانية الجميلة في ضبط النفس والانفعال وعدم الانجرار إلى ميدان تبادل اللكمات والضربات المعنوية وتوجيه الإساءات المتبادلة، فالشخصيات الكبيرة صاحبة الخلق الرفيع لا تنحط – حاشاهم – إلى المستوى الهابط فقيمهم لا تسمح بذلك، بل يتجاوزون محطة الإساءة وكأن شيئًا لم يطرق آذانهم من ذلك الكلام الجارح، فالمشاحنة والخلافات وتبادل الإساءات مطب قد ينزلق إليه الفرد في لحظة انفعال لا يلتفت إلى مخاطره والخسائر التي تصيبه، ولذا فإن صاحب الخلق الرفيع يحذر كثيرًا من لحظات ومواقف الاستفزاز والغضب وما ينجم عنها من نتائج قد يندم عليها كثيرًا، ولا نبالغ إن قلنا إن الضغوط الحياتية والحوارات الساخنة تحول المشهد إلى ساحة معركة يتم فيها تبادل مختلف الأسلحة الفتاكة من شتم وتوجيه كلمات قاسية وجارحة ومواقف التجاهل والإساءة، والتخطيط الشيطاني لتسقيط الآخر المختلف معه في أعين الآخرين وغيرها، فالخلافات الناجمة عن الغضب والانفعال من إساءة الآخر تشعل الفتن وللأحقاد وتقود إلى مستوى لا يليق بكل إنسان يحترم نفسه قبل أن يحترم الآخرين، ويقفون بكل صلابة وهدوء متحملين أذى الآخر ويمتصون حرارة الموقف ويستبقون العواقب الوخيمة، إذ ضبط النفس هو الإطار الذي يمكن من خلاله اتخاذ الموقف والقرار المناسب واختيار الكلمات التي لا يلوم نفسه عليها بعد ذلك.
من الآثار السلبية لحالة عدم الاستقرار بعد الاستفزاز الناتج من إساءة الآخر هو حالة الاضطراب النفسي والتشوش الفكري والوجداني الذي يحرمه من الإحساس باللحظات الجميلة في حياته بعد أن تلقي لحظات الغضب والمشاحنة بظلالها عليه ويصعب عليه العودة سريعًا إلى توازنه الفكري والنفسي، كما أن ذلك يؤثر كثيرًا على علاقاته الأسرية والاجتماعية والوظيفية، إذ يحمل بتصرفه الطائش الآخرين من حوله ما لا علاقة لهم به ويصبح شخصية نكدية لا يرغبون بالحديث والجلوس معه، فالشخصية السلبية تؤثر في محيطها وتصيب بشررها من هم حوله، فكيف بمن يصاحب ويحيا مع صاحب الشخصية الهجومية التي تخوض خلق المشاكل والاصطدام بالآخر لأبسط الأسباب، فلا يتوقف عن افتعال المشاكل وتوجيه الإساءة للآخر وكأنها أضحت هواية يحب أن يمارسها في معظم أوقاته؟!
الكلمات النارية وجرح مشاعر الآخرين يعبر عن تجذر الشر والروح العدوانية في النفس، وخفة في العقل فيطيش مع أقل موقف أو كلمة فيطلق العنان للسانه ليتفوه بكلمات لا يحسب لها حسابا ولا يدرك النتائج المترتبة عليها، وما يصدر من الفرد في لحظات الغضب وانفلات الأعصاب هي تصرفات هوجاء وحماقات تعبر عن خروجه عن الإطار العقلي والديني والنظم الاجتماعية التي تدعو إلى الحفاظ على العلاقات الإنسانية مستقرة وبعيدة عن أي اضطراب، وحتى في حالة مواجهتك لإساءة أو تجاهل من أحد فالتوجيه القرآني هو عدم الالتفات لها ولا تعطى أي أهمية ولا يتوقف عندها، قال تعالى: { … وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }{ الفرقان الآية ٧٢}.
الإمام الزكي (ع) يعطينا درسا مهما في مواجهة لحظات الاستفزاز والانفعال وكيفية مواجهة هذا الموقف الصعب بكل سهولة ويسر والخروج منه بدون خسائر ولا سقوط في وحل الكلمات المتفلتة والمواقف العصبية، فالانفعال والثورة في وجه من أساء إليك لا يعد معيارًا للقوة والحفاظ على الهيبة والمكانة الاجتماعية كما يتصور البعض واهمًا، بل ويبالغ في ردة فعله ويزايد في رد الإساءة بما يثبت أنه قوي وصاحب قبضة تقصم ظهر من يحاول المساس بهيبته بين الناس والحط من مكانته، والحقيقة أن ضبط النفس وهدوءها هي العلامة المميزة لأصحاب العقول الراقية والنفوس المتألقة.
