قطاف من نهج الإمام الصادق (ع)
السيد فاضل آل درويش
ورد أنَّه (سلام الله عليه) بعثَ غلامًا له في حاجةٍ فأبطأ ، فخرجَ على إثرهِ لمّا أبطأ فوجده نائمًا، فجلسَ عندَ رأسه يُروّحه حتى انتبه ، فلمّا تنبّهَ قالَ له الإمامُ (عليه السلام) : يا فُلان واللهِ ما ذلك لك، تنامُ الليلَ والنهار، لكَ الليلُ ولنا النهار )( الكافي ج ٨ ص ٨٧ )
سيرة الإمام الصادق (ع) تعد منهجاً رصينا لحياة الإنسان وعلاقاته وبناء شخصيته، فقد دعا (ع) لأهم مباديء الإنسانية وهو الاحترام لهذا العنصر بغض النظر عن التفاصيل الأخرى، و هذا المبدأ النبيل الذي نادى به و طبقه الإمام (ع) في كل مواقفه هو الذي صنع له جاذبية و محبة في العقول الواعية و القلوب الصافية، و ما أحوج الإنسانية اليوم في إعادة ترتيب عقولها من الأفكار المبعثرة و تصرفاتها من العبثية و التهور و الانفلات ، إلى هذه المنهجية الأخلاقية و التربوية الداعية إلى مدرسة القيم و المضامين النبيلة ؛ لتنتشل الإنسان من متاهات الجهالة و الاعوجاج السلوكي و المشاعر الملتهبة المؤدية إلى الكراهيات و النفرة و الإساءة للآخر لمجرد الاختلاف معه .
و في هذه القصة الجميلة في معانيها و دروسها الفياضة بالرحمة و الشفقة و الإحسان للآخرين ، تعد أحد أهم دروس العلاقات الإنسانية و القيم النبيلة التي تحملها ، فالقسوة في التعامل و الكلام العنيف لا ينجم عنه إلا إيغار القلوب بالكراهيات و الأحقاد و تنافر النفوس ، و أما الإمام الصادق (ع) ففي هذا الموقف يضمنه الكثير من الدروس و العبر في كيفية التعامل الحسن ، و يظهر منه كيفية معالجة الأئمة (ع) لظاهرة العبيد بعدة معالجات تقضي على العرف السائد آنذاك بالتعامل الفظ مع العبيد و كأنهم من طبقة دونية ، فأول تلك المعالجات هو التأكيد على آدمية العبيد و مساواتهم بالآخرين في علاقتهم بالله تعالى ، كما أن الأحكام الشرعية جعلت بعض القضايا عتق العبيد علاجا و حلا لها كالإفطار المتعمد في شهر رمضان و غيرها ، و حث الأئمة (ع) على عتق العبيد و التذكير بالثواب الكبير لمن فعل ذلك ، و أما الإمام الصادق (ع) فهو كآبائه عملوا على عتق العبيد و لكن بعد أن يستبقوهم في بيوتهم لمدة زمنية معينة يتلقون فيها المعارف و الدروس الفقهية و القرآنية و الأخلاقية ، و من ثم يعتقونهم (ع) لينطلقوا إلى بلدانهم مبلغين و معلمين الناس أحكام دينهم و ناشرين للمعارف .
و الإمام الصادق (ع) عندما يرى ذلك العبد الخادم عنده يتكاسل و ينام في الليل و النهار فإنه لا يسكت عن هذا الظلم لحق نفسه و لسيده الذي ائتمنه على الخدمة المنزلية ، فينبهه على الخطأ الصادر منه دون ممارسة أي غلظة معه و لا توجيه كلام مؤلم و جارح له ، بل يأتيه الإمام (ع) ليعلمه و يعلمنا درسا في الجدية في العمل و المثابرة في أداء المهمات و الواجبات الملقاة على الاخرين عاتقنا ، فمن غير المعقول أن تكون هناك الإنتاجية و الإنجاز و الإتقان في العمل إلا من خلال خلق الإرادة و الهمة العالية و تعويد و تدريب البدن على الجدية و ترك التعاجز و التكاسل و الخمول ، فكيف يمكننا عمارة الأرض و الانطلاق في ميادين العمل المختلفة إذا لازمنا وسادة النوم ؟!
و مع وجود تقصير واضح من العبد الخادم إلا أن الإمام الصادق (ع) يعلمنا درسا في الرفق و الرحمة في التعامل مع من هم تحت أيدينا على المستوى الأسري أو الوظيفي أو الاجتماعي ، فمن غير الصحيح التعامل من منطلق ردات الفعل الانفعالية أو التهور في القرارات الساخنة ، بل يصب الإمام (ع) أولويات اهتمامه بتنبيه العبد الخادم إلى الخطأ الذي وقع فيه لئلا يتكرر منه ، فيوجه له النصيحة دون أن يسارع إلى إيقاظه بل ينتظر (ع) حتى يستيقظ العبد فلا يؤذيه و لا يسبب له هلعا أو خوفا ، و عندما يستيقظ يتوجه له (ع) بالنصيحة الرقيقة المفيدة و هي تقسيم ساعات اليوم ، فيوجهه لأخذ قسط من النوم ليلا لما فيه من الراحة الحقيقية للبدن ، فإذا استيقظ نهارا و تجدد نشاطه فليتوجه إلى ساحة العمل و أداء الواجبات الموجهة إليه ، و هكذا يكون عنصرا فاعلا و منتجا في التخصص و العمل الموكل إليه ، و هذا المورد هو منطلق توجيه الإمام الصادق (ع) لنا في موضوع الإنتاجية و الهمة في العمل و الذي يعد من صلب العقيدة الإيمانية ، فانبعاث الهمة هو المحرك الفعلي للإنسان على مستوى جميع الساحات و أهمها علاقته بربه و التزام الفرائض و المواظبة عليها ، و كذلك في طريق تحصيل لقمة العيش الحلال لا تقف العراقيل و الإخفاقات كمصد عن العمل ، بل يبحث ما بين السبل و الخيارات المتاحة و اقتناص الفرص ليحقق وجوده و يثبت مهاراته و قدراته .