سر تفاخر أهل البيت (ع) بجعفر الطيار
زاهر العبدالله
حينما نراجع كلمات أهل البيت عليهم السلام نجد أن هناك تفاخرًا محمودًا مكررًا بينهم، وهو تفاخرهم بالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبأمير المؤمنين عليه السلام وبسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليه السلام وبسبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالإمامين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة عليهما السلام، وكذلك الحمزة (ر) عم نبي الإسلام وكذلك بجعفر الطيار رضوان الله عليهما، ولهذا التفاخر دلالة عميقة مباشرة في عمق الإيمان الذي يطلبه كل مؤمن لأن المفتخر بهم محط القدوة في القول والعمل. فالمؤمن السالك لربه يحتاج لنماذج خاصة ليعرج بها إلى ملكوت الله ورحمته. ومن تلك النماذج الذين بذلوا أرواحهم وأموالهم وأبناءهم في خدمة الدين وأهله جعفر الطيار رضوان الله عليه ولعل المتلقي يتساءل عن السر الذي تميز به جعفر الطيار (ر) عن غيره من الصحابة كي يكون محطًا للمفاخرة عند أهل البيت عليهم السلام.
ومن يقرأ سيرة جعفر الطيار (ر) بتأمل وتحقيق ينكشف له جواب هذا السؤال، وهنا سنذكر بعضًا من سيرته المشرقة قبل الإسلام وبعده لنقف معًا على جوانبه المضيئه.
١-قبل الإسلام
كان جعفر الطيار (ر) لا يشرب الخمر ولا يعبد الأصنام ولا يكذب لأنه يراها منكرات لا تصدر من إنسان حر وذي عقل سوي يطلب السمو والرفعة والكرامة في نفسه. وهناك رواية تؤكد ذلك في شخصيته منقولة عن الإمام الباقر عليه السلام يرويها عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقد روي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع) (قال: أوحى الله تعالى إلى رسول الله (ص) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (ص) فأخبره، فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتُك، ما شربت خمرًا قط، لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط، لأن الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنمًا قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع، قال: فضرب النبي (ص) على عاتقه وقال: حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة). (١)
٢-بعد الإسلام كان جعفر الطيار (ر) يُحب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد حثه على ذلك أبوه أبو طالب ليكون الجناح الثاني بعد أخيه أمير المؤمنين عليه السلام، فكان من أوائل الناس الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ذلك في الأيام الأولى من دعوته السرية التي استمرت ثلاث سنوات على ما روي قبل الصدع بها، وكان جعفر يومئذ في العشرين من عمره، روي في مستدرك الوسائل (فلما أتى لذلك – أي البعثة والتحاق علي وخديجة – أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (ص) ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله (ص) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر). (٢)
٣- بعد إيمانه برسول الله (ص)
كان له دور كبير في خدمة الدين الإسلامي خصوصًا إذا كان الإيمان عن علم وبصيرة ويقين ونقاء وإخلاص كجعفر الطيار رضوان الله عليه فقد هاجر الهجرتين وكان الناطق الرسمي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسفيره الأمين حيث أنقذ بحكمته وبلاغته وفصاحته وحجته من كان معه من الصحابة عند ملك الحبشة حين جاء وفد قريش لإرجاعهم مكة المكرمة. حيث وصف النبي الأعظم(ص) بوصف عظيم ودقيق ومفصل عن أخلاق وعفة وصدق رسول الله (ص) فقد ذكر في التاريخ أن النجاشي دعا أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله – سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه)،
فقال له: أيها الملك، كنا قومُا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -. قالت -أي أم سلمة-: فعدّد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، قالت: فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} -أي سورة مريم-.
قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال (لهم) النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون) . (٣)
من هذه الحادثة نعرف إن جعفر الطيار ( ر ) أشرب الإيمان وخالط لحمه ودمه وروحه من رأسه لأخمص قدمه فوعاه وعمل به ودعا له فكان مفخرة يستحق الاقتداء به.
٤- بعد رجوعه من الحبشة
رجع جعفر الطيار (ر) من الحبشة في وقت سرور النبي الأعظم (ص) بانتصاره على اليهود في خيبر حيث ورد عن رسول الله (ص)
روي عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما جاءه جعفر بن أبي طالب من الحبشة قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبل ما بين عينيه وبكى، وقال: ” لا أدري بأيهما أنا أشد سرورًا. بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر؟ ” وبكى فرحًا برؤيته. (٤)
فمن فرحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أعطاه هدية عظيمة أصبحت شعيرة يلتزم بها المؤمنون ويعملون بها حتى يومنا هذا سميت باسمه وهي صلاة جعفر الطيار (ر).
فهذه هدية معنوية جليلة. التي يصفها العرفاء بأنها الإكسير الأعظم لنيل الكمالات المعنوية، وهي من مختصات أهل الولاية التي حباهم الله تعالى بها، فكانت صدقة جارية لجعفر يأتيه مثل ثواب من أقامها إلى يوم القيامة فجزاه الله خير جزاء المحسنين وأحسن مثواه.
٥- المحطة الأخيرة وهي الشهادة بين يدي النبي (ص)
وهو الوعد الذي كان ينتظره من رسول الله (ص) حيث بعثه براية في معركة مؤتة لقتال الروم لأنه معروف بشجاعته وقوته وبسالته في الحرب فقاتل قتال الأبطال الذين لا يهابون الموت. فقطعت يداه في سبيل الله فكانت المكافأة منه سبحانه أن يبدله بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة فلقب بذلك حتى يومنا هذا. فقد ورد
عن جابر الأنصاري أنه قال: (فلما كان اليوم الذي وقع فيه حربهم صلى النبي (ص) بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال: قد التقى إخوانكم مع المشركين للمحاربة، فأقبل يحدثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال: أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها، ثم قال: قد قُطعت يده وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال: قُطعت يده الأخرى وقد أخذ الراية في صدره، ثم قال: قتل جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية، إلى أن قال: ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر فدعا عبد الله بن جعفر فأقعده في حجره، وجعل يمسح على رأسه، فقالت والدته أسماء بنت عميس: يا رسول الله إنك لتمسح على رأسه كأنه يتيم، قال: قد استشهد جعفر في هذا اليوم، ودمعت عينا رسول الله (ص) وقال: قطعت يداه قبل أن يستشهد وقد أبدله الله من يديه جناحين من زمرد أخضر فهو الآن يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء). (٥)
٦- الخاتمة
بعد هذه السيرة العطرة يتبين قدر وعظم جعفر الطيار رضوان الله عليه فاستحق أن يكون محطًا للمفاخرة والاعتزاز عند أهل البيت عليهم السلام .
وهنا نذكر شاهدًا واحدًا من الفاخرة على سبيل المثال لا الحصر لأهل البيت عليهم السلام على لسان مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام في مجلس يزيد حيث قال:
أيها الناس أعطينا ستا وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة..(٦)
… .
المصادر
(١)علل الشرائع – الشيخ الصدوق – ج ٢ – الصفحة ٥٥٨.
(٢)مستدرك سفينة البحار – الشيخ علي النمازي الشاهرودي – ج ٦ – الصفحة ٣٢٥.
(٣)شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ٦ – الصفحة ٣٠٩.
(٤)بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٢١ – الصفحة ٢٤.
(٥)شجرة طوبى – الشيخ محمد مهدي الحائري – ج ٢ – الصفحة ٣٠٠.
(٦) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٥ – الصفحة ١٣٨.