أفشش الكورة
ياسر بوصالح
في طفولتنا كثيراً ما كانت ترعبنا تهديدات مشاغبي ملاعب «الفريج» أو الحارة، كتهديد: «إمّا أن ألعب أو أخرّب الملعب» أو «إمّا أن ألعب أو أفشش الكورة»، لأنّ عاقبة هذه التهديدات كانت حرمان اللاعبين والمشجّعين من مباراة كأس العالم الذي سُتقام في هذه الحارة البائسة.
لكن ما إن كبرنا واتسعت مداركنا عرفنا مدى طفولتنا البريئة التي كانت تُركّز فقط على نتيجة هذا التهديد، وليس التركيز على صيغة التهديد نفسه!
فتهديد «إمّا أن ألعب أو أخرّب الملعب» هو تهديد استراتيجي؛ لأن هذا التخريب سينتج أعمال مقاولات جديدة وفتح مظاريف وترسية عقود من تحت الطاولة لإعادة إعمار هذا الملعب البائس، فضلاً عن الثأر من سيارة والد مُطْلِق هذه التهديدات، ناهيك عن الشتائم للمُهدِّد ووالده بل أسرته بالكامل.
أمّا التهديد الآخر «إمّا أن ألعب أو أفشش الكورة» فهو تهديد تكتيكي يركّز على «تفشيش» أو تنسيم الكورة، وهو تخريب مؤقّت، أقصى عاقبته هو نفخ هذه الكرة المسكينة من جديد، أو رقعها، أو حتى شراء كورة جديدة، لكن هذا التخريب المؤقّت يعطي فرصةً للمفاوضات وتحديد مراكز القوى، وفي النهاية فَرْض إرادة المُهدِّد أو المُخرِّب أو «المفشش» على قواعد اللعبة.
بعد هذه المقدمة أودُّ أن أسلّط الضوء على بعض النقاط:
أوّلًا: هذه الأمثال هي تجربة شعوب ومخزون لحكمتهم فلا ينبغي إهمالها، بل ينبغي تخصيص جزء من مقرّر التربية الوطنية عنها، سيما إذا ما نُقلت في إطار تربوي ناجح بحيث يسهل على أبناء هذا الجيل تقبّلها واستمرائها، بالمناسبة كانت لي محاولة قديمة لم يُكتب لها النور في تأليف كتاب بعنوان «تأصيل الأمثال من تُراث الآل»؛ كنت أحاول أن أربط كل مثل شعبي بروايات أهل البيت ، من خلال تسليط الضوء على القواسم المشتركة، على سبيل المثال.. المثل الشعبي الدارج عندنا في الأحساء «اللي عنده سبعة تحرم عليه الشبّعة» له قاسم مشترك مع كلمة أمير المؤمنين «قلة العيال أحد اليسارين»، أو المثل الشعبي العراقي «مكروهة وجابت بنية» الذي به إشارة إلى ذكورية مجتمعاتنا العربية، وله قاسم مشترك مع الآية الكريمة «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» وهكذا مع بقية الأمثال.
ثانياً: عندما أضفت بعض الإسقاطات في المقدمة على مجرد أمثال شعبية دارجة أردت إيصال فكرة معيّنة، وهي أن كل شيء في هذه الدنيا هو صورة مصغّرة عن شيء أكبر، لكن نحتاج إلى إعمال أقصى درجات التفكير في التأمل تارة والفلترة تارةً أخرى مهما بدت لنا بساطة ذلك الشيء.. مثلًا عندما نقرأ في الرسائل العملية للمراجع الدينيّة بأن مستحبات دخول المسجد أن يكون بالرجل اليمنى، وعند الخروج بالرجل اليسرى، والعكس بالنسبة لبيت الخلاء الدخول باليسرى والخروج باليمنى، فهل ننظر إلى هذا المستحب فقط بصورته الملكوتية، وهو الثواب الأخروي؟ أم نتأمل أكثر فنخرج إلى قناعة بأن الله سبحانه يريد منا حالة السطوة على عقولنا لأنّ المتحكّم بخطواته هو متحكم بحياته، بمعنى آخر أنّ من يملك استحضار الله سبحانه وثوابه على هذه الخطوة أو تلك، قطعاً ويقيناً سيستحضره في كل حياته وكل نقاطها كبرت صغرت بعُدت أو قربت.
ثالثاً: الإنسان هو ابن بيئته تؤثر عليه إيجابا وسلبًا من حيث يدري أو لا يدري، ولعل القارئ الكريم قد مرّت به قصة الشاعر علي بن الجهم عندما أتى من الصحراء ومدح المتوكل العباسي لكن بقصيدة استنكرها الحضور رغم نبل قصده في المدح حيث قال:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدِّ وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً مِن كِبارِ الدِلا كَثيرَ الذَنوبِ
لكن ما إن تريّث الخليفة العباسي وأمهله فرصة حياة المدنية في بغداد أبدع في الشعر التالي:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
بل البيئة قد تؤثر أحياناً حتى على عقل الفقيه في الاستنباط والفتوى، ففقيه الصحراء عقله مؤدلج على الآيات الكريمة ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: آية 14] أو ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: آية 89] لكن فقيه الأنهار والبيئة الباردة عقله مؤدلج على ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ([الأنفال: آية 61] أو ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: آية 8].
لذلك هذه الأمثال التي تبثّ حالة العدوانية والحروب في المجتمع «إمّا أن ألعب أو أخرّب الملعب» أو «إمّا أن ألعب أو أفشش الكورة» أو «يا طخّه أو أكسر مخّه» وما يجري في فلكها من بقية الأمثال لا ينبغي نشرها لأنها تترسّخ في بيئتنا وعقولنا، بل الأصحّ نشر الأمثال الشعبية «الهون أبرك ما يكون» أو «اللين أكله هين» وما يجري في فلكها.