لماذا نصدق الكذب الصراح
المترجم: عدنان احمد الحاجي
بقلم فيلب فيرنباخ وستيڤين سلومان
كيف يمكن أن يصدق الكثير من الناس بأشياء تعتبر من الكذب الصراح؟ أخذ هذا السؤال طابعاً ملحاً بعد أن قامت الإدارة الأمريكية حينئذ بنشر افتراءات بشأن تزوير الانتخابات وبشأن تغير المناخ وإحصاءات الجريمة التي تعتقد بها نسبة كبيرة من الأمريكيين. ولكن الوهام (1) الجمعي ليس جديداً، ولا هي الميدان الحصري لليمين السياسي. بعكس الإجماع العلمي، الكثير من الليبراليين يعتقدون بأن الكائنات الحية المعدلة وراثياً G.M.O.s سامة، وبأن اللقاحات هي سبب التوحد.
الوضع يزداد سوءً لأنه يبدو سهلًا على الحل. الحقيقة واضحة للعيان لو كلفت المرء نفسه بالبحث عنها، أليس كذلك؟ سلسلة الأفكار هذه تؤدي إلى تفسيرات جماهير مخدوعة لا تعدو كونها أكثر قيلًا من تنابز بالألقاب: مثل “هؤلاء الناس هم أغبياء” أو “وحوش”.
اقوال الناس هذه قد تجعلنا نشعر بالرضا عن أنفسنا، ولكنها مضللة وساذجة: وهي تعكس سوء فهم للمعرفة التي تركز بشكل مفرط على اختزال ما يجري في أذهاننا. هنا هي الحقيقة المتواضعة: لو تَُرَك الناس وأنفسهم ، فليس بمقدورهم تمييز الحقيقة من الوهم، و لن يقدروا على ذلك أبداً. الجهل هو الحالة الطبيعية للناس، وهو نتاج طريقة عمل العقل.
ما يميزنا كبشر عن بعضنا ليست قدرتنا الذهنية. سر نجاحنا هو قدرتنا على السعي وراء تحقيق اهدافنا المعقدة سويًا وذلك بتقسيم الأعمال التي تتطلب جهدًا ذهنيًا فيما بيننا. الصيد والتجارة والزراعة والصناعة التحويلية – كل الابتكارات التي غيرت العالم – اصبحت ممكنة بفضل هذه القدرة . الشمبانزي يتمكن من أن يتفوق على الأطفال الصغار في مسائل التفكير العددي [القدرة على تحليل المعلومات] والتفكير المكاني [القدرة على معرفة العلاقة المكانية بين الأجسام] ، ولكنه لا يستطيع ان يجاريهم في المهام التي تتطلب التعاون مع آخرين لتحقيق أحد الأهداف. لا يعرف كل واحد منا إلا معرفة بسيطة، ولكن معاً نستطيع أن نحقق إنجازات جديرة بالملاخظة.
المعرفة ليست في ذهني ولا في ذهنك . بل هي مشتركة بيننا.
خذ بعض الأمثلة البسيطة. أنت تعرف أن الأرض تدور حول الشمس. ولكن هل يمكنك أن تقوم بالرصد والحسابات الفلكية التي أدت إلى هذا الاستنتاج لوحدك؟ أنت تعرف أن التدخين يسبب السرطان. ولكن هل يمكنك ان تبين مدى تأثير الدخان في خلايانا، وكيف تتشكل الخلايا السرطانية ولماذا بعض أنواع الدخان أكثر خطورة من غيرها؟ لا نظن أنها كذلك. معظم ما “تعرفه” – معظم ما يعرفه الناس – عن أي موضوع هو خانة من معلومات محفوظة في أماكن أخرى، بين دفتي كتاب ربما تراكم عليه الغبار (نسيناه من زمان) أو في أذهان بعض الخبراء.
أحد التبعات المترتبة على حقيقة أن المعرفة مفرقة بهذه الصورة هي شعور الناس أنهم جزء لا يتجرأ من مجتمع المعرفة يمكن أن يجعلهم يشعرون كما لو أنهم يعرفون الأشياء التي لا يعرفونها. في الآونة الأخيرة، أحدنا أجرى سلسلة من الدراسات (2) حيث تحدثنا فيها الى الناس عن بعض الاكتشافات العلمية الجديدة التي فبركناه، مثل، الصخور المتوهجة. عندما قلنا أن الباحثين لم يفسروا بعد لماذا تتوهج هذه الصخور ثم سألنا المشاركين في الدراسة عن مدى معرفتهم بتوهج الصخور، فذكروا انهم لا يعرفون عنها شيئًا على الإطلاق – وهذا يعتبر رد فعل طبيعيًا جدا من قبلهم، نظراً لأنهم لا يعرفون شيئا عن الصخور. ولكن عندما قلنا لمجموعة أخرى عن نفس الإكتشاف، ولكنا في هذه المرة فقط أدعينا أن الباحثين قد بينوا كيف تتوهج الصخور، أفاد المشاركون في الاستطلاع أنهم فهموا شيئًا بسيطًا عنها. تبين هذه الإجابة كما لو أن معرفة الباحثين (والتي لم نخبز للمشاركين بها ) قد انتقلت إلى المشاركين مباشرة.
الإحساس بالمعرفة يبدو أنه ينتشر بالعدوى [يعني هذا الإحساس معدٍ]. المعرفة التي يمتلكها آخرون أو يزعمون أنهم يمتلكونها، تجعلنا نشعر بأننا أكثر ذكاءً وهذا فقط يحدث عندما يعتقد الناس أن لديهم إمكانية الوصول إلى المعلومات ذات العلاقة والحصول عليها: عندما أشارت سرديتنا التجريبية التي فبركناها إلى أن الباحثين عملوا لصالح الجيش وأنهم يحتفظون بسبب التوهج سراً لا يمكنهم الكشف عنه، لم يعد هؤلاء الناس يشعرون بأن لديهم أي معرفةً بالسبب الذي جعل الصخور تتوهج.
الفكرة الأساس هنا ليست أن الناس غير عقلانيين ؛ بل أن هذه اللاعقلانية أتت من مورد عقلاني جدًا. الناس يخفقون في التمييز بين ما يعرفون وبين ما يعرفه الآخرون لأنه غالبًا ما يكون من المستحيل أن يرسموا حدودًا دقيقة بين المعرفة الموجودة في أذهانهم وبين المعرفة الموجودة في أماكن أخرى.
هذا ينطبق بشكل خاص على القضايا السياسية المثيرة للخلاف. لا يمكن لعقلك إتقان المعرفة بشكل مفصل بما فيه الكفاية عن العديد من هذه القضايا والاحتفاظ بها في الذاكرة. ولذا لابد من أن يعتمد الشخص على مجتمعه. ولكن إذا لم تدرِ بأنك تستفيد من معارف الآخرين، فقد يؤدي ذلك بك إلى الغطرسة والتكبر.
هكذا أوهام جماعية توضح كلاً من قوة وعمق قصر التفكير عتد البشر. من اللافت للنظر أن مجموعات كبيرة من الناس يمكن أن تجتمع على اعتقاد سائد عندما يمتلك القليل منهم بشكل فردي المعرفة اللازمة لدعم هذا الاعتقاد. وبهذا الاعتقاد اكتشفنا بوزون هيغزHiggs boson (3) وبه رفعنا سن الإنسان بمقدار 30 سنة في القرن الماضي. لكن نفس القوى الكامنة تفسر سبب اعتقادنا / تصديقنا بأشياء فظيعة، والتي يمكن أن تؤدي إلى نتائج مترتبة ولكنها كارثية بنفس القدر.
ذلك الجهل الفردي هو الحالة الطبيعية لنا جميعًا وهي عبارة عن حبة دواء مرة ( من المرارة) علينا أن نتجرعها. ولكن لو أخذنا هذا الدواء، فقد يكون مقوٍ لنا وقد يساعدنا على التمييز بين المسائل التي تستحق دراسة جدية من تلك التي تدعو إلى تحليل انفعالي وسطحي. كما يمكن أن يدفعنا إلى طلب تحليل حذق ودقيق من قادتنا ، والتي تعتبر الطريقة الوحيدة المجربة والحقيقية لصنع سياسة فعالة وعملية. معرفتنا الجيدة بمدى قلة ما نملك من معرفة في أذهاننا ستخدمنا بشكل أفضل .
مصادر من داخل وخارج النص
1- “الوُهَام delusion هو اضطراب عام في التفكير ويتسم باعتقاد ثابت خاطئ لا يتزعزع حتى لو اعتقد الاخرون من حوله خلاف ذلك أو برزت له أدلة دامغة تنفي ذلك. وهو اعتقاد راسخ في نفس المريض، ويتصف هذا الاعتقاد بأنه زائف أو وهمي أو مبني على التضليل . وفي عالم الطب النفسي، يُعرف الوهم بأنه اعتقاد مرضي (ينتج عن مرض أو عن أحداث مرضية)، ويستمر المريض في تمسكه بوهمه على الرغم من وجود قرائن تثبت له عكس ما يتوهمه. أما في علم الأمراض، فيتم التمييز بين الوهم وبين الاعتقاد المبني على أساس من الزيف أو المعلومات غير الكاملة أو العقيدة المتزمتة أو الغباء أو الإدراك الشعوري أو الانخداع أو غيرها من الآثار التي تنبع من للإدراك الحسي. وفي الأحوال التقليدية، يصاب الشخص بالوهم حال إصابته بمرض عصبي أو مرض نفسي، وذلك على الرغم من عدم ارتباطه بالإصابة بمرض محدد. كذلك، يصاب الشخص بالوهم مع العديد من الحالات المرضية (بنوعيها: الجسدية والعقلية).” مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/وهام
2- https://www.nytimes.com/2017/02/02/business/energy-environment/senate-coal-regulations.html
3- https://ar.wikipedia.org/wiki/بوزون_هيغز
المصدر الرئيس