هذا ما وعد الرحمن
السيد فاضل آل درويش
حالة الذهول من هول المفاجأة وتغير الواقع والمشهد بعد رحيل الإنسان لا يمكن توقع مدى تأثيره على نفسه وشعوره، حيث أن الالتصاق بمظاهر الدنيا وزينتها والأنس بالأحاديث المتبادلة مع الأهل والأحباب قد انقطعت، واستبدل بها مشهد صادم غير مسبوق من الوحشة والمخاوف من فقدان أسباب القوة في الدنيا من جهة، والمخاوف من مستقبل لا يدري ما يفعل به ولكنه على يقين من مواجهة وحساب على ما قدمت يداه، وأما التوتر الكبير عنده يتمثل في رؤيته للحقائق وتيقنه من تقصيره في الإتيان بالأعمال الصالحة، فلا مجال هنا للتوبة والتعويض إلا ما يأتيه من نافذة الوفاء من أسرته وأصدقائه فيما يهدى له من قراءة سورة الفاتحة والصدقات وغيرها من الصالحات، وما يرزق من بر أبنائه الذين لا ينسونه فيشمرون عن سواعدهم ويشركونه في أعمال الخير ويدعون له بتيسير الحساب والعفو عما في ربقته.
يعتصره الألم والحسرة الشديدة على صدوده عن استماع النصيحة لترك حياة الغفلة وتضييع الأوقات فيما لا يفيد، لقد استولى عليه الشعور بعدم المسؤولية تجاه ما يصدر منه فكانت له منادمة مع الغيبة وانتهاك أعراض الآخرين دون رادع من التقوى والخوف من مواجهة الحساب والمساءلة يوم القيامة، كما أن حقوق الآخرين المالية والمعنوية لم يكن لها وجود في ضميره فغاب عنه حتى الصوت المبحوح لنفسه اللوامة المحذرة له من حلول الفراق وهو على ذلك الحال السيء، فصحيفة أعماله قد اسودت من الآثام والمنكرات بعد أن افتقدته مشهدية محاسبة النفس ومراقبة أفعاله وتصرفاته، فاستمر به غيه وجرأته على ارتكاب محارم الله تعالى دون أن تحدثه نفسه بتوبة صادقة ورجوع حقيقي إلى ساحة الرحمة والمغفرة الإلهية.
ما أجهل هذا الإنسان الذي يورثه حب الدنيا اعتقاد الخلد وعدم مفارقتها، فيأخذه طول الأمل نحو التخطيط لغاياته ومشاريعه دون أن تراوده فكرة الرحيل، فالطموح شيء جميل ولكنه إن ارتفع منسوبه حتى يصل لنسيان الآخرة وعدم الاستعداد للقاء الله تعالى، تصبح حينئذ الحبال الذي تخنقه وتغرقه في لجج الحياة حتى حلول الأجل، في وقت لا ينفع معه الندم والتحسر وتطوى صحيفة أعماله.
التصوير القرآني للعاصي وهو يقدم على ساحة العدالة والحساب الإلهي بأنه يحمل شيئًا ثقيلًا احتطبه على ظهره فلا يقوى على المشي يحمل علامات التحذير والتنبيه والمحاسبة على ما قدمت يداه، فقد هدت قواه البدنية وشلت حركته السوية تلك الأوزار التي اقترفها في حياته طيلة عمره، وما درى بأنها لن تتلاشى ولا تذهب سدى بل تنتقل معه في الحياة الأخروية الأبدية، وهذا المشهد التصويري لحال العصاة وحملة الآثام ممن غرتهم زينة الحياة الدنيا وآثروا الاستجابة العمياء لأهوائهم وشهواتهم المتفلتة دون ارعواء، ليس بصورة مجازية تقرب المعنى لميل ميزان الأعمال بسبب كثرة السيئات، وإنما هي صورة حقيقية يعبر عنها بما نسميه (تجسيد الأعمال)، حيث كل عمل يمارسه الإنسان من ذنوب يتحول إلى صورة بينتها الروايات الكثيرة التي تحدثت عن أحوال الناس في يوم القيامة، وكيفية تجسد ذنب الغيبة والنفاق وأكل مال اليتامى وغيرها من المعاصي، وهذا يؤكد على مبدأ محاسبة النفس لتلافي مثل هذا المشهد المخيف والمؤلم، وذلك ليقف المرء على ما ارتكبه من ذنوب فيستغفر الله تعالى عنها ويطلب العفو الإلهي ويتجه نحو التغيير الإيجابي بعقد العزم على تركها مستقبلًا وتجنب مسببات المعصية.
تلك الأوزار هي حصيلة خط الانحراف والانغماس في الشهوات والتمرد على الأوامر الإلهية، فهاهو يثقل ظهره فينوء عن حملها والمسير بها كما كان في الدنيا قد أثقل روحه بالبعد عن رحمة الله تعالى، فها هو في يوم الحساب يجر أوزارًا لا يطيق حملها بل وتقوده نحو المصير المحتوم الذي يسوؤه، فأية حسرة وتندم أشد من هذا الموقف الذي ما دار بخلده أن يواجهه وقد ظن أن ذنوبه كالكتابة على الماء تنمي بمجرد فعلها، إنه يواجه نتيجة وجزاء عمله الدنيوي ليواجه الخسران المبين.
قال تعالى : { … وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }{ الأنعام الآية ٣١ }.