وتجرأت بجهلي
السيد فاضل آل درويش
وهبنا الباري مجموعة من القدرات والإمكانات التي نوظفها في طريق تحقيق أهدافنا وغاياتنا، في مواجهة قوية مع التحديات والصعوبات والظروف القاهرة لنتغلب عليها في نهاية الأمر أو نتعايش مع ما لا يمكن قهره وتجاوزه، وهذه القدرات مورد اختبار إلهي في توظيفها في طريق الخير والتكامل الأخلاقي وصنع المعروف، وإما أن يكون الإنسان جاحدًا ولئيمًا لا يعرف الولوج إلى بوابة الشكر على النعم الإلهية، ويمتنع عن شكر تلك الجوارح التي يلامس بها الواقع ويتفاعل معه، وليتصور حاله لو حرم من إحدى تلك الحواس – فضلًا عن جميعها – وكيفية إدارة حياته ومذاقها حينئذٍ، وليس المطلوب منه في مقابل الشكر للوهاب عز وجل سوى تحقيق كرامته ومكانته اللائقة مع نعمة العقل، فيسير على جادة الارتقاء والرقي من خلال خط الاستقامة و محاسبة النفس والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام عليها، وأما الانسلاخ من القيم الإنسانية النبيلة فهو يعني رمي تلك النعمة الإلهية والسير خلف الأهواء والشهوات المتفلتة دون منظم لأفعاله وسلوكياته، فالعقل البشري مصباح هدى وقبس نفع في طريق العقلانية والمنطقية، ومتى ما فقد الإنسان عقله الكابح لجماحه وتهوره فإنه سيقبل كالسيل الجارف في أودية المخالفات والخطايا السحيقة.
والجرأة في معناها السلبي وهو المشار إليه في المقطع هو حالة التهور والانغماس في الشهوات والهرولة العمياء خلف الأهواء وعدم النظر في عواقب الأمور، فعندما يطيش الغقل ويفلت عقال التوازن النفسي والفكري يتخلى المرء عن تحمل مسئوليات ما يفعله، إذ هو في تلك الحالة كالسكران مغيب العقل ويسير خلف نزواته دون إدراك إلى أين تتجه به، فمن حذره الناس من مسيره المتجه به إلى حيوان مفترس ألا ترى أنه يتوقف عن مشيه ويتجه إلى المسار المعاكس موليًا حفاظًا على نفسه من الخطر والضرر، فكيف به ينزلق نحو الهاوية ويخسر عمره ومستقبله الحقيقي بالتعرض للنقمة الإلهية، فإذا لم يكن شاكرًا لأنعم الله تعالى التي تغمره بكل اتجاه فيستقيم على طريق الاستقامة وتنزيه النفس وطهارتها من دنس محارم الله تعالى، فلتتحرك غريزة حفظ النفس عنده ويتقي العقوبات الإلهية في يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى ما ترك عباده على عمى في بصيرتهم، بل أرسل لهم الأنبياء (ع) ليبينوا لهم حقائق التوحيد ومكارم الأخلاق التي هي مضامين عالية وقيم سامية تتضمنها العبادات الشرعية، وقدم القرآن الكريم التوجيهات والإرشادات التي تسمو بالمرء في عالم الفضيلة والورع، فكل تلك المحرمات والمنكرات ليس له فيها مصلحة وإنما تتضمن الأضرار الفردية والمجتمعية.
ولنا أن نتساءل عن العامل الذي يدفع الإنسان إلى ارتكاب المعاصي والمحرمات، مع ما أوضحته الشريعة الغراء من عقوبات تنصب على العصاة في يوم الحساب، يوم يقفون بين يدي العدالة الإلهية وتنصب الموازين وتنشر صحائف الأعمال، فيرى كل صغيرة وكبيرة أجرمها وكأنه يشاهد مسلسل عمره في قرص مرئي، ومن منا لا يستحي من رؤية ما يسود وجهه ويصغر شأنه وينكس رأسه، فكيف غابت عنه كل تلك الحقائق ويسير في طريق الانحراف متخليًا عن تنبيهات عقله وضميره.
الجهل المطبق هو أهم العوامل للانحراف ومقارفة الآثام، فالجهل بالعظمة الإلهية يدل على سخف العقول وإلا فإن نظرة متأمل هادئة في هذا الكون البديع وتركيبه المنظم يورث حقيقة الحكمة والقدرة الإلهية المطلقة، وجهل بعواقب الأمور فلا يتحمل مسؤولية أفعاله ولا يتأنى قبل أن يقدم على أية خطوة قد لا ينفع معها الندم الشديد، ويغيب عنه مبدأ محاسبة النفس ليقيم أفعاله ويتعرف على مواطن أخطائه وتقصيره؛ ليصحح من أمره ويعقد العزم على التوبة النصوحة، ويعقد العزم على تجنب عوامل المعصية مستقبلًا، فإن من أهم عوامل الجهل والتعمية عند الإنسان هو حب الدنيا ونعيمها الزائل، فيورثه الحرص وطول الأمل والانغماس في الشهوات وإشباعها بكل الطرق، فيوسوس له الشيطان الرجيم ويزين له ارتكاب المعاصي مستغلًا جهله بالمصير الأسود للعصاة.