الرمق الآخير
السيد فاضل آل درويش
التغيير في أحوالنا ومسار علاقتنا بالله تعالى والانتشال من حطيط المعاصي الذي وصلنا إليه، يبدأ بقرار نتخذه متحلين بإرادة قوية تتجاوز حالة الخمول والكسل والغفلة واستمراء الآثام، فالبقاء في وحل الشهوات والأهواء يحرمنا من الفيوضات الرحمانية وأهمها الحرمان من لذة المناجاة والإقبال على الله تعالى بإخلاص وخشوع، والطريق إلى إحداث تغيير جوهري هو الاتصال بالخالق واستشعار حالة الافتقار إليه، في أجواء روحية تحفها حالة اليقظة الروحية عن طريق المناجاة والأدعية، حيث يبدي المرء الانكسار والتحسر على ما مضى من الأيام الخوالي وقد كان ظالما لنفسه باقتراف الذنوب، نعم لقد كان مفارقًا لتوجيه عقله الواعي حين استجاب لغرائزه الدنيئة دون النظر إلى العواقب المترتبة عليها وفداحة ما سيلحق به من خطر كبير بعصيان الخالق العظيم، فجهله بعظمة الباري عز وجل جعله يخاطر بنفسه وبمستقبله الأخروي، وأي جهل وقع فيه أعظم وأفدح وأبشع من معصية المنعم والمتفضل عليه!!
جهله دعاه إلى تفضيل اللذة الفانية إذ يقضي منها نزوته لفترة محدودة ويبقى حاملًا وزرها وتبعاتها، في مقابل ذلك ما ضيعه على نفسه من رضوان ونعيم أعده الله تعالى لمن التزم طريق الرشد والاستقامة والخشية من الله تعالى، فيتوجه إلى خالقه في حالة من الانكسار وييمم وجه رجائه نحو نظرة رحمة وتحنان من أرأف وأرحم الراحمين، فيتطلع إلى قبول توبته التي أبداها بعد اعتصار قلبه أسفًا وتحسرًا على ما مضى من غفلته وتقصيره، فتلك النفس المتمردة والمتجرئة على اللهث خلف النزوات وحياة التفلت قد امتحت صورتها، وتبدلت إلى صورة أخرى ملؤها الخشية من الله تعالى والطهارة من دنس الآثام واتباع الضمير الحي في كل خطواته.
يتوجه المرء إلى ربه سائلًا المغفرة والتجاوز عن غفلته وما ارتكبه من ذنوب تسود صحيفة أعماله، في وقت قد أزفت فيه أيام شهر شعبان الذي شارف على الرحيل ليبزغ بعده هلال شهر رمضان، وهذا الاستشعار بفوات فرصة ثمينة وعظيمة في شهر شعبان الذي يعد الممر والمحطة الآخيرة قبل دخول بوابة الشهر الكريم، يدل على يقظة تؤسس لحالة محاسبة للنفس وإحساس بحركة عقارب الساعة التي تكشف له الكثير من الأوقات التي ضيعها ولم يستثمرها في ساحة الطاعة، فهناك من تمر عليه المناسبات الزمانية دون أن تنشط نفسه لاقتناصها وتحويلها إلى ساحة عبادية يروض فيها نفسه ويهذبها من شوائب التقصير والأخطاء، فهو وإن عاش ردحًا من الزمن في حالة الغيبوبة الفكرية والسلوكية بسبب سكر المعاصي، لكنه يستقبل مرحلة من التغيير في طريق الإنابة والرجوع إلى الله تعالى، وهذا يدل على ما يتحلى به من عقل وإرادة في مواجهة تزيين الشيطان الرجيم، وها هو يقف بين يدي محاسبة النفس والمراجعة الذاتية لخطواته وتصرفاته ليوقف مسلسل الجرأة على محارم الله تعالى والخسائر اللاحقة به، فما فات قد ولى ولا يمكن تعويضه أو تغييره إلا من خلال التوبة الصادقة والندم الحقيقي على سوء حاله والبكاء على نفسه، وها هو يشمر عن سواعد الهمة فينفض عنه غبار الجهالة والغفلة للتعويض والتبديل، فالشيطان الرجيم يقف على جادة طريق العبد ليحجزه ويمنعه من التوجه إلى راحة نفسه وخلاصها من ربقة الشهوات والانعتاق من أغلال المعاصي، فيعمل على تأييس المذنبين من تغير حالهم وقبول توبتهم ويكبر عليهم الرجوع إلى الله تعالى.
في هذه المرحلة الحساسة التي تسبق الشهر الكريم يعمل المرء على الاستعداد والتهيؤ لمقدم شهر البركة والرحمة والمغفرة والجوائز السنية، وهو فرصة ثمينة لا تعوض فيبذل جهده للتخلص من شوائب الذنوب المانعة من إخلاص العمل، فهناك من أنقذته هزة الضمير فاستيقظ من سبات الغفلة وصعب عليه حال نفسه التي ستقدم على الجبار في يوم الحساب وقد تلطخت بالآثام، ولكنه تبصر طريق الخلاص وأعلن في محراب المناجاة والدعاء تغير حاله فانتشلها من الهلاك، إنه يتمسك بحبل النجاة المتمثل بالاستغفار الحقيقي المصحح لمسيرته، فيعزم على ترك الذنوب مستقبلا بالحذر من أسبابها.
ورد عن الإمام الرضا (ع): اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان، فاغفر لنا فيما بقي منه)(وسائل الشيعة ج ١٠ ص ٣٠١).