من كتاب لماذا نقدس القرآن لسماحة العلامة الشيخ باقر بوخمسين
إبراهيم بوخمسين
لماذا نقدس القرآن، كتاب للعلامة باقر بوخمسين ألف هذا الكتاب عام 1367هـ.
طبع الكتاب عام 1435هـ – 2014 م، بجواثا للنشر لبنان بيروت. حيث جاء فيه: حدا بي إلى إخراج هذا السفر عوامل ثلاثة:
1- قداسة القرآن: نعم قداسة القرآن وما حواه من أنظمة وقوانين.
2- ابتعاد شبابنا عنه. ابتعد الشباب عن دراسته.
3- داعي الحق: أقول داعي الحق، ولا أقول داعي الإسلام فقط.
وموضوع الصيام هومن باب الطقوس الدينية في القرآن
الصوم
هو من أقدم العادات والعبادات عند قدماء المصريين واليونان والرومان وفيما جاء عن المسيح قوله للحواريين: ( أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم، لعل قلوبكم ترى الله عز وجل)، ويقول الله عز وجلّ: ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” البقرة: ١٨٣، فالآية الكريمة تشعرنا أن الصوم كان موجودًا عند الأمم السابقة وفي عامة الأديان السابقة للدين الإسلامي فمنها من قيده بزمان ومنها من قيده بمكان، ومنها من اعتبره فريضة دينيه يجب أداؤها امتثالًا لأوامر الإله.
كما أن البعض إنما يقوم به باعتباره أمرًا يصد عادي الشهوة الحيوانية، وبعض آخر يعتبره عملا تهذيبيًا أخلاقيًا تكبح به عادي النفس، وبعضهم يعتبره كدواء يقوي المعدة بالحمية. فلكل وجهة هو موليها، حتى جاءت الشريعة الإسلامية فكانت أحسن الشرائع من حيث النظر إلى فوائده الدنيوية والأخروية، ومن حيث اعتباره كنظام عام يجب أن يعم جميع البشر في كل زمان وفي كل مكان، لأن ما ينجم منه من الفوائد روحية كانت أو اجتماعية، أمر يحبب لأجله تشريعه ووجوبه والحث عليه والعقاب على تركه.
فالصوم أكبر داع يدعونا إلى الله وأكبر واعظ يذكرنا الآخرة في أيام معدودة من كل سنة يشوقنا إلى الفوز بالنعمة الخالدة والكرامة الدائمة، يمثل للأغنياء حالة الفقراء فيعرفون كيف هو الجوع والعوز عند جوعهم وعوزهم. ويُوجد في أهل المال الرأفة والرحمة والحنان على شركائِهم في الإنسانية فيرشدهم إلى مد يد المعونة إليهم بالمواساة، ويعلم ذوي المسكنة الصبر على الشدة ويدربهم على مكافحة الخطوب يسليهم باشتراك أرباب الثروة معهم في مضض الجوع والعطش. تلك المواساة حقًا التي يرشد الجميع إليها ويهديهم إلى إتباعها.
شرع الرسول الصوم وله نواحٍ من جهة الصحة والدين والأخلاق، فإذا أرادنا أن نعرف فائدته من ناحية الصحة فهو ذا النبي محمد * يقول: (المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء و أعط كل بدن ما عودته) لذا قال: “سانكلار”، قضيت عشر سنين في درس ضعفي وضعف من حولي من الرجال والنساء فوجدت العلة وكشفت العلاج فوجدت أكثر الأمراض ينتج من كثرة الغذاء، وأن الصوم مفتاح الشفاء والسبيل المؤدي إلى الصحة التامة فهو العلاج الحقيقي.
ويمكننا أن نعلل ذلك أنا نتناول من الطعام فوق حاجتنا وزائد على ما تحتاجه أبداننا فيتولد من فضلات الغذاء سموم اختمارية لا تقوى الأعضاء على احتمالها فحالما تنقطع عن الطعام يتوقف الإفراز ويرتاح الجهاز الغذائي وتتحول القوة التي كانت تتصرف في التغذية إلى تنقية البدن من تلك الفضلات السامة ويعينها على التنظيف وشرب الماء فيكتسي اللسان في أول الأمر غشاء أبيض ويثقل النفس ولا يزال ذلك حتى ينضح الجسم ما فيه من المواد المرضية فينظف اللسان ويرتاح التنفس.
وقد ثبت أن الصوم أكبر علاج لمقاومة الشيخوخة وتجديد الشباب لما ذكرنا من حيث الصحة وإذا أردت أن تعرف فائدته الروحية فهي:
أولاً: تهيئ النفس لطلب العلوم والأدب والحكمة لأن الإنسان إذا خلت معدته من الطعام مدة من الزمن سهل عليه القيام بالعمل سيما الأعمال الفعلية فيتيسر له تحصيل العلوم والمعارف وتتجلى للمرء نفسه بأكمل مظاهرها وأعلى صفائها ولا يحصل له هذا إلا بذاك.
ثانيًا: كبح جوارح الإنسان عن الاستزادة في سبل الشهوات لأن جل مساوئ الأخلاق إنما تحدث من الانغماس في الترف والانطباع بالشهوة فإذا صام الإنسان وأمسك عن دواعي اللذات والشهوات تمكن بذلك من صفاء قلبه وذكاء فطنته.
وإذا أردت أن تعرف فائدته من حيث الأخلاق العامة فإذا فهمنا أن الشارع المقدس أراد من تشريع الصوم صقل الروح وتصفيتها من أدران المادة وأكدار الحياة الدنيا ورفع مستواها الحيواني إلى المستوى الروحي المنزه عن العيوب والنقائص إذا لا يختلف الملأ الأسفل عن الملأ الأعلى إلا بالاستسلام إلى الشهوات البهيمية والملاذ الجسدية لتتجلى لهم روح عالية في نفوس صافية ومتى ردع الإنسان نفسه وترفع عن تلك الشهوات وتلاشت أمام عينه فسيتحول إلى ملاك طاهر.
ونفهم من هذا التشريع أنه نظر إلى الطب الروحي كما نظر إلى الطب الجسمي فقد قصد من الإقلال من الطعام لمدى شهر في كل سنة تعويض ما تفقده النفس الإنسانية من حيويتها من جراء اشتغال الإنسان بالماديات في أثناء العام كله، ولم يقصد الإسلام من هذا إلا الحصول والموازنة بين حقوق الروح وحقوق الجسم ليكون الإنسان إنسانًا كاملًا معتدل المزاج و متوسطًا في مطالب طبيعته، فائزًا بالسعادة التي مات غطاريف الفلاسفة دون الوصول إليها، وبذلك يسهل عليه تهذيب خلقه وكبح جوامح نفسه وتربية أفكاره، وبذلك يعيش في المجتمع رجلًا موفور الكرامة.
ويمكن أن تتعرف على فائدة الصوم وما يرجع به على إيمان الصائم وتدينه إذا عرفت أن الشارع جعله جنة من النار أي وقاية منها وذلك أنه لا يريد منه مجرد الإمساك عن أكل وشرب فقط بل يريد من العبد أنه إذا صام فليصم معه لسانه مِن الفحش: فلا يكذب ولا يتعرض للناس بالهجر من القول، وإذا صام فليصم معه لسانه عن الغيبة والمنكرات، وليصم معه بصره عن النظر إلى ما لا يحل له، ولتصم معه رجله عن السعي في الوشاية والنميمة، ولتصم معه يده عن البطش والاعتداء على الغير بغير حق، وليصم معه قلبه عن موبقة الحسد والحقد.
فلا يماري ولا يسب أحدًا وليكن الصدق والوفاء والسكون والحلم شعاره فذلك هو الصائم حقًا. فلم يعالج الناس بترك الأكل والشرب وحده بل تمهيدًا لتقوية الإرادة تقوية تجعلها قابلة للسيطرة على النفس الشريرة وبذلك وردت الأخبار. فهذا صريح الخبر يقول ليس الصوم إمساكًا عن الطعام فقط إنما هو إضافة إلى ذلك غض البصر وعدم النظر الآثم، وصد الأذن عن استماع اللغو وحفظ الفرج عن إتيان الفاحشة.
ومن هذا تعرف أن الصوم هو تسخير القوى الشهوانية البهيمية للقوى الملكية العقلية ونمو ملكة الصبر والثبات واستعمال الهمة. ومن هذا صار كبار الرجال ذوي العقول من أهل الغرب وعلمائه لا يتناولون في اليوم والليلة من الطعام إلا مرة واحدة. لذا يقول تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ ﴾ البقرة: ١٨٥، وينقل في الحديث القدسي عن أبي عبدالله (ع) قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (الصوم لي وأنا أجزي عليه) .
يقول (بول) “إن شهر الصيام هو الزمن الذي يتفرغ فيه الإنسان لدرس عالمه الذهني والوقوف على مقدرات عقله وقوى شهواته ومحاسبة نفسه وإعطائها خطة لعمل خاص تقوم به في المستقبل يفيدها في تقوية الإرادة وقوة الأمانة والمراقبة للشهوة.
أما كونه مختصًا بشهر رمضان لا يتعداه، فهو لحرمته كما يقول عنه: ” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ” البقرة: ١٨٥.
يقول أحد العلماء: إن أسند إلى الإسلام تشجيع الميل إلى الشهوات فأي دليل يرد ذلك أكبر من الشهر الجامح الذي تلجم فيه الشهوات وتزجر النفس عن غاياتها فهذا هو منتهى العقل. وإن كان مباشرة اللذات ليس بمنكر ولكن من المنكر أن تذل النفس لجبار الشهوات. ومن أشرف الخصال أن يكون للإنسان من نفسه على نفسه سلطان فلا تذله شهوة ولا تطغيه رغبة.
يقول الدكتور محمد الظواهري: “إن كرم رمضان يشمل عرض الأمراض الجلدية إذ تتحسن بعض الأمراض الجلدية بالصوم. وعلاقة التغذية بالأمراض الجلدية متينة إذ أن الامتناع عن الغذاء والشراب مدة ما، تقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلته في الجلد وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المعدية والميكروبية ومقاومة الجسم في علاج الأمراض المعدية هي العامل الأول الذي يعتمد على سرعة الشفاء، وأن الجسم الذي لا يقاوم الميكروبات ويدفعها ينهار، ويضعف تأثير الدواء المبيد للميكروبات مع الجسم القليل المقاومة. وقلة الماء في الجلد تقلل أيضًا من هذه الأمراض الجلدية الالتهابية والحادة والمنتشرة بمساحات كبيرة في الجسم، وأفضل علاج لهذه الحالات من جهة الغذاء هي الامتناع عن الطعام والشراب لفترة ما ولا يسمح إلا بقليل من السوائل البسيطة. وقلة الطعام تؤدي إلى نقص الكمية التي تصل منه إلى الأمعاء وهذا بدوره يريحها ويقلل من تكاثر المكروبات الكامنة بها وما أكثرها وعندئذ يقلل نشاط الميكروبات المعدية ويقل إفرازها للسموم وبالتالي يقل امتصاص تلك السموم من الأمعاء، وهذه السموم تسبب العدد الكثير من الأمراض الجلدية. وإن الأمعاء لبؤرة خطرة من البؤر العنيفة التي تشع سمومها عند كثير من الناس وتؤذي الجسم والجلد وتسبب لها أمراضًا لا حصر لها، وشهر رمضان هو شهر الهدنة للراحة من تلك السموم وأضرارها، والصيام كذلك علاج أمراض زيادة الحساسية وأمراض البشرة الدهنية.
ونختم الفصل هذا بما كان النبي يخطب به الصحابة فقد كان نبينا محمد إذا قرب شهر رمضان قام خطيبًا يحضهم على فعل الخيرات من العطف على الضعفاء والرحمة بالأيتام ويأمرهم بصلة الأرحام وينهاهم عن القطيعة ويرغب المؤمن فيما أعد الله له إن كف لسانه وأذنه وعينه عن المحارم.
يقول النبي محمد : (أيها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبولًا، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيها الناس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أيها الناس من فطر منكم صائمًا مؤمنًا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه قيل: يا رسول الله فليس كلنا يقدر على ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء.
أيها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازًا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيمًا أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضًا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)
١- جامع السعادات ج 2/ الشيخ النراقي
٢ – مستدرك الوسائل ج1 ص 453.
٣ – الإيمان والعلم الحديث
٤- – الكافي / محمد بن يعقوب الكليني / الجزء 4
٥- _ وسائل الشيعة / الشيخُ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي/ الجُزء الأوّلُ