كوب كتاب بين يدي رجاء البوعلي
رباب حسين النمر: الأحساء
في مقهى كوب كتاب بالمبرز أقام ملتقى شعراء الأحساء يوم الجمعة المنصرم، أمسية بعنوان: (الأدب والفكر في تجربة رجاء البوعلي)، بإستضافة الإعلامية الكاتبة رجاء البوعلي،قدم الأمسية وأدارها الشاعر إبراهيم البوشفيع، وداخل خلالها الناقد كاظم الخليفة بورقة نقدية حول تجربة البوعلي الكتابية.
ودارت رحى الأمسية مرتكزة على محاور ثلاثة طرحها البوشفيع على هيئة تساؤلات: المحور الذاتي، والمحور الأدبي، والمحور الفكري.
تحدثت البوعلي في المحور الذاتي عن بدايات الكتابة، إجابة على سؤال البوشفيع: متى وجدت رجاء نفسها في خضم الكتابة وماذا مثلت لك سابقًا وماذا تمثل لكِ الآن؟
وجاء في حديثها: الطفولة هي نبوءة الشباب والنضج والإنسان. حينما كنت في التاسعة من عمري سألتنا المعلمة بشكل عفوي: ماذا ستصبحين إذا كبرت. فأجبت بعفوية طفولية: سأصبح كاتبة. كانت الإجابة دون تبعات ولا ترتيبات، ومرت السنوات بشكل طبيعي وكان لي ثمة تميز في مادة التعبير في فترة الدراسة المتوسطة والثانوية.
وفي المرحلة الجامعية كنت أنوي كتابة مقال، فكتبته، ونشرته إحدى الصحف الإلكترونية المحلية باسم (رجاء محمد). لعدها توقفت قليلًا عن الكتابة، ثم عدت بالهوية الحقيقية (رجاء البوعلي) فكتبت مقالًا ونشرته صحيفة ورقية هي صحيفة الشرق دون أن أعلم.
وفي عام ٢٠١٤ بدأ يظهر في الساحة توجه نحو النقد، وبدأ النقد الذاتي ونقد الموروث يأخذ صداه، وقد كتبه البعض بموضوعية والبعض بطرق متحاملة. وكما يقال: النقد فن الحكمة والتخبط.
وفي ذلك الوقت شعرت أن ثمة فوضى في النقد، وأن هناك مسؤولية تقع عليّ تجاهه، فكتبت عن النقد. وجاءت ظروف المواطنة وكتبت في هذا الأفق. وتتابعت الموضوعات وتتابعت الحاجة.
وبدأت أتلمس توجهات النساء الكتابية على الساحة المحلية، فوجدت كاتبات القصة والشعر والخواطر. وأحببت أن أشغل مكانًا ليس لأحد.
وغالبًا ما يقال في الأوساط الأدبية إن المرأة عاطفية، وتدور هذه المقولة في مقام الانتقاص، ولذلك أحببت أن أخوض مجال المقالات حيث أني أستطيع أن أقدم في هذا المجال، وتقديم وجه المرأة المفكرة التي تطرح بموضوعية وأقدم الجانب الجدي وإذا عُرف يأتي كل شيء في سياقه.
-البوشفيع: ذكرت في مقالاتك أنك تُخلِّدين والدلك في كتاباتك وتحتفين بذكراه الحزينة في مقالاتك.. ما تعليقكِ؟
-البوعلي: توفي والدي عام ٢٠١٩م، وقبل ذلك شاركت في يوم الأم بقصيدة نثرية في أرض الحضارات بعنوان شعاع وهو اسم والدتي. وكتبت عن أمي بشكل علني ولم أكتب عن والدي فشعرت بتقصيري، وكتبت( لماذا يوم الأب العالمي منسي)، ولماذا تميل الأسرة للأم. وشعرت أنه من المفروض أن أكتب ولكنني لم أكتب. ويقال: الدهشة سر الشعر والصدمة سر التأمل. نزلت صدمة وفاة والدي عليّ بطريقة تأملية فكرية وليست عاطفية. وقطعت ع نفسي وعدًا أني سأكتب عن والدي بطريقة أدبية.
كنت مصابة بصداع في الثلاثة الأيام الأولى للعزاء، وقد تلقيت العزاء من الأخت عالية الفريد من القطيف وعندما عزتني قالت لي أنت كاتبة فاكتبي لترتاحي!
فقررت في الأيام الأولى أن أكتب ما حدث نصًا.
وبعد مرور سنة عدت للنصوص وعلى ضوئها كتبت قصة قصيرة هي (عين على النعش) وشعرت بالراحة. القصة كان فيها بعد تأملي عن الموت وهذا بسبب الصدمة. وقوفي في غرفة المغتسل بحثت عن الروح. وكنت أتأمل. وكذلك راودتني تساؤلات حينما كنا نذهب فجرًا للقبر وكانت الأسئلة تطبخ في داخلي أين الروح؟
وفي ختامها استشهدت بمقولة لأحد الفلاسفة أن الروح من طبيعتها البقاء. والإيمان يخفف على الإنسان الموت.
وحول تأثير شخصيتها الكتابية على شخصيتها الوظيفية أو العكس أشارت البوعلي أن شخصيتها الكتابية هي شخصيتي الوظيفية، “عملت في قطاع صحي مشرفة تدريب، ومركز تجربة العميل هو مكان يستقبل نقد العميل. ونما النقد عندي بشكل رتيب لأني أستقبل انتقادات الناس لمدةثماني ساعات وهذا أثر في كتاباتي النقدية. ومن المعلوم أن المحرك الأول للتطوير هو النقد. أما كيف انعكست الثقافة ع العمل، فأنا بمجرد ما أجد وقت فراغ أو وقفات بالعمل أقرأ أو أكتب، فليس لدي وقت للتجمعات ولا الترفيه. فالوقت محدود وأنا لا أمدد العلاقات بل أشتغل الوقت بالثقافة.
وقدم الناقد كاظم الخليفة ورقة نقدية في كلمة مسجلة بعنوان: (الأسلوب السردي في مجموعة القاصة رجاء البوعلي “١٠ أيام في عين قسيس الإنجيلي”)،
ذكر فيه: “كموجز من وحي القراءة الانطباعية الاستطلاعية لمجموعة رجاء البوعلي القصصية “أيام في عين قسيس الإنجيلي” نستطيع وضع تصور “للثيمة” الجامعة لمواضيع المجموعة وحصرها في “هموم وتطلعات المرأة السعودية المعاصرة” التي تعددت صور التعبير عنها في المجموعة”
وأضاف :”إن أسلوب القاصة السردي قد تنوع؛ تبعًا لطبيعة الحدث المراد التعامل معه وكشفه. ويمكن حصر ذلك في نمطين من الأسلوب: أسلوب السرد الشاعري، والأسلوب الحكائي التقريري.
في الأول، تشتغل القاصة رجاء على اللغة عندما يكون موضوع الحكاية هو الحديث عن المشاعر والأحاسيس للعوالم الداخلية للشخصية الرئيسة، ومن ثم محاولة استنطاقها للبوح بمكنونها، ويأتي ذلك من خلال توظيف الاستعارات والكناية والصور الشعرية. فالأجناس الأدبية تتجاور في أفق الإبداع ولا يضيق بها، حتى أنها تتبادل التقنيات والأدوات بينها بكل سهولة وانسجام. فتقبلُ القصيدة تقنية “الحوار” كخصيصة سردية، ومن جانبها، تستجيب القصة لإغراءات المجاز والصور. تُشرِق بالكناية، ولا يختل جنسها كثيرًا بالقليل من الاستعارة؛ حيث الموضوع السردي هو المحدد لذلك.”
ويقول : “وعندما نأخذ بالمقولة المشهورة بأن القصة في مؤداها «طريق للقصيدة»، يسهل علينا حينئذ مقاربة هذا الأسلوب الشاعري واستخلاصه من قصص رجاء، وبالتحديد في قصصها: “وجه الليل”، وقصة “عيني على النعش”، وقصة مونامور”. أما قصتها “جاثوم الحب”، فيمكننا الاستشهاد بهذا المقطع من نسيجها:
«على سرير من الديباج الأبيض، مستلقية على جنبي الأيمن، عروسٌ جاهزة لقص شريط الحياة، وسط غرفة محمومة بأشعة الشمس لكنها باردة من شدة التكييف، أنظر لكرسي الخيزران يهتز أمامي، أحاول رفع جسدي، تحريكه، زحزحته، كل شيء عصي متبلد الحس، أحبالي الصوتية أشك بأنها تقطعت أو ابتلعتها دون قصد! أتكلم لا أحد يسمعني… لا أحد يراني، كل شيء ساكن في هذا العالم سوى خوفي…».
فهذا اللون السردي الشاعري الكاشف عن الحياة الداخلية للشخصيات، يخضع لضرورة ومحددات فنية نابعة من بنية القصة”.
“أما الأسلوب الآخر في المجموعة القصصية، فهو الأسلوب الحكائي التقريري الذي تنبع حكاياته ومواضيعه من الواقع المعاش للمرأة: الفتاة والأم، وإرهاصات الحضور المعاصر والبارز للمرأة في الحياة العملية والاجتماعية. وهذا ينطبق على باقي قصص المجموعة ما عدا واحدة، والتي عنونت المجموعة القصصية بها “١٠ أيام في عين قسيس الإنجيلي” والتي نعدها جرأة في التجريب على الجنس القصصي عندما ارتأت رجاء إدراجها في مجموعتها وهي عبارة عن “حكاية شخصية شيقة” تقترب من أدب السير الذاتية، وذلك بإفصاحها عن أسمها الصريح في ثنايا القصة كشخصية رئيسة فاعلة فيها.
وبالعودة إلى الأسلوب الثاني، بعد الاستطراد السابق، نلحظ حساسية القاصة رجاء اتجاه انخفاض منسوب السرد في القصص نتيجة لكبر مساحة الحكاية، وهذا ما دفعها إلى ضخ جمل شاعرية بجرعات مناسبة في مفاصل القصة مثل:
«فاجأتني! لا تدري أنها وصلت لامرأة تحضن حلماً كبيراً أيضاً، وتأمل ألا تجبرها الحياة على السفر عنه». في قصة “عاملتي الإفريقية”. و«كيف تحتمل ارتجاج الساعات في القطار وهي مجرورة من القفى!»، في قصة “شقة في الملحق الأخير”. وأيضاً في جملة «أغلقت الهاتف، نفضت وسادتها ونامت كما ترقد الغابة بعد إعصار شتوي» في قصة “متعة”، إلى العديد من الجمل التي تحاول فيها رجاء أن تحافظ على المستوى السردي في منسوبه المعقول، وبالتالي إبراز أسلوبها من خلاله.
وفي النهاية، لنا أن نعتبر القصة الحديثة وسيطاً يمتزج فيه جميع الأجناس الأدبية، وحتى الفنون التشكيلية التي أصرت رجاء البوعلي أن تشارك عتبات قصصها؛ كاللوحات التشكيلية التي استعانت بها ووظفتها كصور بصرية تكميلية أو اختزالية لمواضيع الحكاية في جميع القصص، لفنانين سعوديين وخليجيين. أما الكثافة الشاعرية واستخدام الأدوات البلاغية في الشعر وتوظيفها في أسلوب بعض قصصها، فيكون مبرراً، بالاعتبار إلى أن القصة وعندما تستخدم الاستعارة على مستوى العبارة، فيمكن النظر إليها هي نفسها؛ «كاستعارة تمثيلية كبرى»
وفي المحور الأدبي سأل البوشفيع عن سبب تعدد الأجناس الأدبية لدى البوعلي، وعن سبب التنوع وأيها تجد نفسها فيها أكثر كينونة، فقالت:
” التجربة الكتابية تجربة وجودية وتسبقها القراءة. ولا أدعي أني أقرأ كل الروايات ولا كل دواوين الشعر. ولكن أقرأ ما يجذبني، وعادة ما أقرأ بشكل أفقي، وأجد القراءة هي التي شكلت وعيي الكامل ووجدت فارقًا فكريًا في كتاباتي.
إن النقد على الرواية هو تقريري، وتتزامن عندي القراءة والكتابة وأحب التجريب، وأرى أن ما يشغلني هو الوعي. وأبحث عن روايات تدور حول قضايا فكرية. والكتابة تصنعني بشكل كلي. كان في ذهني الاشتغال على الشعر هذا العام ولكن انحرفت لا إراديًا نحو الكتابة الفكرية”
وفي المحور ذاته سألها البوشفيع: النثر يتحدث والشعر يغني ..
عرفت بنفسك أنك شاعرة تكتب قصيدة النثر فما هي المرجعية التي تتكئين عليها في كتابة قصيدة النثر؟
فقالت: ” الحداثة تزيل القدوة. وهذا يسقط على الآباء الفكريين فأنا لا أقلد ولا أستنسخ لشاعر بعينه
وبدأت اعرف أن هذا النوع من النثر هو شعر.
استوقفتني الموضوعات في الشعر الإنجليزي، ومرجعيتي هي القصيدة الشعرية.
كانت البداية أيام المنتديات، فقد قرأت للماغوط وهو سوداوي وشعراء المهجر وأنسي الحاج ونزار قليلًا، وفي الشعر السعودي الثبيتي وفوزية بو خالد وعبد الله السفر والدميني وأستطيع التفريق بينهم.
قد تأسرني القصيدة وقد أجده نثرًا. قصيدة أحمد الملا مكثفة، وقصيدة الثبيتي تصنف من السهل الممتنع.
أنسى النصوص ثم تكون هناك إعادة تفكير في الشعور، وقرأت لقاسم حداد. وأقرأ حول الشعر لصلاح بوسريف. وقرأت كتاب قوة الشعر وهو مترجم ويتحدث عن أثر الشعر . والشعر هو الحالة الشعورية.”
البوشفيع:
في كتاباتك الأدبية ١٠ ايام في عين القسيس الإنجيلي
يجنح السرد إلى ما يشبه كتابة المذكرات الذاتية فيختلط الخيال بالحقيقة. هل القصص حقيقية دونت بطريقة أدبية؟
البوعلي: هي تجمع بين السرد الذاتي والسرد القصصي.
حدثت القصة عام ٢٠١٧ تمامًا. وكذلك قصة (عيني على نعش).
وهناك قصص في المجموعة تدمج بين الحقيقة والواقع مثل قصة جاثوم الحب ففيها شي من الخيال وشي من الواقع. الجاثوم ارتخاء في العضلة والنائم يرى ولا يستطيع أن يتحرك. أسقطت عليه قضية أخرى وفكرة أن شابة أجريت لها عملية وهي في غرفة الإفاقة فأصيبت بالجاثوم .. حتى انتهت القصة أن زوجها يوقظها والكل ينتظرها. شعر أنها ميتة وكانت تتألم على الحياة التي انتهت ولم تفرح فيها مع زوجها واستغرقت في المشكلات وتوافه الأمور.
وفي المحور الفكري سألها البوشفيع: عرفت رجاء بالكتابة بصراحة وجرأة. هل وجدتِ كفًا يربت على كتفكِ للمضي؟ فأجابت: “لا أنتقد بشكل شخصي ولا مباشر .
الجانب الصريح جاء في مرحلة الدراسة الجامعية حيث قرأت مقولة لشكسبير أن مداد قلم الكاتب مقدس كدم الشهيد، فشعرت أن هذا الشيء المقدس لا بد أن يكون مقدسًا.
بعد وقت وجدت أن المصداقية ممن يكاشفونك نسبيًا، والنقاد الذين يعبرون بصراحة هم من يبقون معك لأن لهم مصداقية.”
وختم البوشفيع الأمسية بسؤاله:
بعد التجربة الطويلة العريضة ما الذي تريد رجاء البوعلي بعد أن تكتب كل ما في قلبها وعقلها؟
البوعلي: الإنسان يبحث عن ما يوجده.
أبحث عن المعنى وأتعاطف مع الإنسان المتألم والمجروح.
السلام والانحراف في الإنسان لها جذور في الطفولة. أجد الإنسان ضعيفًا مهما بدا قويًا.
أتعامل مع الكتابة كإرث، فعندما كتبت الرواية كنت أفكر أن لا يندم مشتريها ع المال الذي دفعه فيها، وفي القادم يهمني أن يبقى الكتاب في المكتبة ولا يكون مرتبطًا بزمن لأن الكتابة إرث بعد موت الكاتب.
وفي نهاية الأمسية تقدم رئيس ملتقى شعراء الأحساء الشاعر ناصر الوسمي بتقديم دروع التقدير لضيفيه.